أخطر مهمة للصندوق الدولي لإعادة إعمار لبنان هي تلك التي، ربما، لم تخطر ببال الذين اقترحوه أو سعوا إلى إنشائه وبذلوا مجهوداً ملحوظاً في تسويقه للقاصي والداني، ولاسيما القاصي:
إنها مهمة “تحرير” الحل، وبالتالي “تحرير” دولته التي يطلق عليها مجازاً أو تشنيعاً أو تيمناً بالخبر (!!) لقب “الجمهورية الثانية”، من الاعاقات والمعوقات التي تعطل تجذر الحل في “سلام وطني” حقيقي، وتعترض قيام الدولة المرتجاة في لبنان الذي لم يألف – في تاريخه كله – فكرة المؤسسات لاسيما على المستوى “الرسمي”.
كيف ذلك، وممن يكون “التحرير”؟!
لا ضرورة لشرح مستفيض يخلص إلى توصيف “اتفاق الطائف” بأنه “تسوية” تصلح أرضاً لمرحلة انتقالية، تنهي الحرب الأهلية وتمهد لعصر السلام الوطني العتيد، وتحيي “فكرة” الدولة أكثر مما تقيمها بالفعل، مستفيدة من احتياج الأطراف جميعاً إليها كملاذ أو كمخرج أو كقوة فصل أو “كمطهر” أو كمرجعية معنوية لا يشكل التنازل لها هزيمة لطرف أمام الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
“الجمهورية الثانية” تنتهي بانتهاء المرحلة الانتقالية التي ولدتها،
و”التسوية” التي تمتحن صيغتها السياسية هذه الأيام ستخلي الطريق بالنتيجة لمؤسسات تجسد الاستقرار و”الوحدة الوطنية” وتحل عبر الديمقراطية الاشكالات التي يفرزها النظام الطائفي المعتمد بعد والذي “يناضل” المنتفعون به لدوامه إلى الأبد تذرعاً بالتركيبة اللبنانية المتميزة؟!
كأنما النظام الديمقراطي البرلماني أعجز من أن يحقق لرعايا “الدولة” التي تعتمده مشكلات الانتماء والهوية والشعور بالغبن والخوف و”التمايز الحضاري”!!
كأنما يستورد لبنان وحده الديمقراطية من جاهلية الأمس وليس من غد التقدم والعدالة والمساواة بين البشر.
و”الجمهورية الثانية” التي هي بنت التسوية والمرحلة الانتقالية هي حتى إشعار آخر “رهينة” فعلاً، حركتها محدودة وكذلك الآمال المعقودة عليها.
إنها “رهينة” القوى (الخارجية والداخلية) التي توافقت على “قيامها”، متنازلة لها عما كان بيدها من أسباب السلطة والقدرة على ممارستها.
ونظرة واحدة على صورة الحكم القائم، بمؤسساته المختلفة، تظهر كم تفرض التوازنات والحرص على إنجاح “المسيرة” من بطء في الحركة وعجز عن القرار وتساهل في التنفيذ ومحاباة لـ “قوى الأمر الواقع” على حساب “الدولة” كفكرة ثم كمرجعية ومصدر للسلطة باسم الشرعية ومن أجل خير “الشعب” بمجموعه.
ومع الأخذ بالاعتبار كل الملاحظات على أشخاص الحاكمين وممارساتهم ومباذلهم، وبعضها فاقع في فضائحيته،
ومع التنويه بأن عجز هذا الحكم تحديداً عن اتخاذ القرار بالحسم المطلوب، في توقيته وماهيته، يفوق ما هو مقبول،
ومع الاستهجان المطلق لتباطؤ الحكم في إنهاء التماهي الذي كان قائماً وما زال بين “الدولة” – الشرعية – التسوية – الحل، وبين “دول” الميليشيات الطائفية (قوى الأمر الواقع) التي أضافت إلى “امتيازاتها” المغتصبة الكثير من الحقوق “المشروعة” عبر اكتسابها صفة “الشرعية” وحق النطق باسمها.
مع ذلك كله فإن أي حكم آخر كان سيحتاج إلى تحصين وإلى قوة دعم غير محدودة (لاسيما على الصعيد الاقتصادي) ليتمكن من مواجهة الأعباء الثقيلة التي تنتظره في المعبر الضيق والملغم بين زمن الحرب وأفق السلام المنشود.
كان لا بد في الاقتصاد كما في السياسة من تدخل قوى الإسناد والرعاية الخارجية لتحرير المشروع الوليد من تسلط قوى الأمر الواقع الداخلية،
تماماً كما انتقل دعم سوريا ورعايتها إلى مشروع الدولة، على حساب قوى سياسية شبه عسكرية كانت تقدم نفسها “كحليف” يتكامل مع دمشق في مناهضتها لمشروع “صهينة” لبنان أو تفتيته إلى دويلات طائفية.
و”الصندوق” يوفر لفكرة الدولة، وليس بالضرورة للحكم، المهابة والجدية والاستمرارية والثبات والقدرة التي لا يمكن لأي حكومة أن توفرها سواء أكانت ثلاثينية أم خمسينية أم ذات ستين حقيبة!
بل إن “الصندوق” يسرّع إطلاق دورة جديدة للعبة السياسية في البلاد، تقصر من أجل الخواء السياسي الراهن الذي يعوم فيه الحكم (والشعب)، فتصعب المعارضة وتستحيل الموالاة لضياع الحدود بين الحكم والدولة والحل العتيد.
إن تأثير الصندوق على الحياة السياسية لا يقل أبداً بل لعله يزيد عن تأثيره على الدورة الاقتصادية،
وأول نتائجه إنه سيسهل الفصل بين الحكم والدولة، فبمقدار ما تتعزز الثقة بفكرة الدولة وثباتها يمكن محاسبة الحكم على تقصيره وتردي أدائه،
ولعل أول ضحايا الصندوق (ومكاسبه) هذه الحكومة السيئة الطالع والسمعة التي سيطرح مصيرها الآن على بساط البحث الجدي.
فمع تبلور مشروع الدولة يصبح منطقياً أن يصارإلى تشكيل حكومة تحكم فتحاسبن بدلاً من حكومة يسوي أعضاؤها حساباتهم الشخصية على حساب الحكم والدولة والحل العتيد، كما نشهد في أفياء هذه الجمهورية السعيدة!