أما وقد ياتت الصحافة المتهم الوحيد بالتحريض والإثارة والحض على الاقتتال، و”المسؤول” الوحيد عن كل ما حصل في لبنان من مآس وكوارث ودمار كاد يذهب به، فلا بد على الأقل من أن يسمح لنا بدفاع موجز عن النفس… قبل أن نبدي رغبتنا الأخيرة!
في حدود ما نعلم، فإن الصحافة – بجسمها الأساسي – كانت تنادي بالحوار وتعمل لتنشيطه وتكثيفه وتوسيع دائرته، إيماناً منها بضرورته وفائدته القصوى والتزاماً منها بأبسط مبادئ الديمقراطية التي تقوم على الصراع الفكري بين الاتجاهات والتيارات والأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها وعقائدها باعتبار أن “البقاء للأفضل”، وإن البديل الوحيد للحوار كطريق للحلول السياسية هو الاقتتال بالسلاح.
وفي حدود التزامنا بقضية الوطن، وانطلاقاً منها، فلقد كنا – في هذه الصحيفة خاصة وفي الصحف الوطنية عامة – طليعة لدعاة الحوار، وأحسسنا بطعم الهزيمة في حلوقنا عندما رأينا هذه الدعوة تسقط شهيدة الرصاصة الأولى من رصاص “الحروب” المتعددة التي أغرقت لبنان في بحر من دماء بنيه طول الشهور الثمانية الأخيرة.
ولأننا بين أصحاب المصلحة في التغيير، أو التطوير، أو الاصلاح، سعياً وراء قيام وطن حقيقي تسوده قيم ديمقراطية حقيقية، فلقد كنا ولا نزال وسنبقى مؤمنين بالكلمة، بالحوار، بالصراع السياسي، ذلك لأننا نعرف جيداً إن الأسلحة الأخرى تقوي الطائفيين وتقوي النزعة الفاشية عند أعداء التغيير، وتمنع بالتالي أو تعطل الاصلاح المنشود.
ولأن أحلامنا كبيرة وعظيمة، بينها إن مصير لبنان وطناً حقيقياً لكل أبنائه، ووطناً حقيقياً في وجه عدوه الإسرائيلي، وأن يصير نظامه ديمقراطياً بالفعل بل رأسمالياً بالفعل وليس عشائرياً – قبلياً – طائفياً – متحجراً – متعفناً كما هو الحال الآن، فلقد كنا نفهم جيداً إن طريقنا طويلة وإن العقبات عليها وفيها كثيرة ومتعددة ومتنوعة، وإن الوصول يقتضي تضحيات جسيمة وعظيمة ويقتضي طرح العنف جانباً لأن العنف – في ظروف كظروف لبنان والمنطقة العربية من حوله – يفيد الثورة المضادة ويخدم أهدافها وأهداف الأجنبي والعدو الإسرائيلي.
لهذا كله اعتبرنا أنفسنا منتصرين مرتين عند تشكيل الهيئة الوطنية للحوار:
أولاً – لأن الرصاص توقف فأمكن إنقاذ بعض الوطن وبعض المواطنين.
وثانياً – لأن الصراع السياسي ربح فرصة جديدة للحياة مؤكداً تمسك الكثرة الساحقة من اللبنانيين باعتماد الأساليب الديمقراطية في حل معضلة نظامهم وتطويره بما يليق بكرامتهم كمواطنين وبتراثهم الحضاري وبجلال انتمائهم إلى أمة مجيدة.
وبمعزل عن عواطفنا تجاه أشخاص الهيئة، وعن رأينا فيهم، وعن مدى اتفاقنا أو اختلافنا في الرأي معهم، فلا شيء يسعدنا حقاً أكثر من أن يتوصلوا إلى تحقيق الحد الأدنى من المطالب الوطنية التي التقوا على اعتبارها ضرورة من أجل استمرار لبنان ذاته، ناهيك عن ضرورتها لبناء غده الأفضل.
فلتطمئن الهيئة، إذن ، إلى أن الصحافة (وحريتها) ليست عقبة في طريق الحوار، ولا خاصة في طريق الأهداف المرجوة منه، ولتنصرف إلى مهمتها بالجدية والإخلاص والشعور العميق بالمسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقها.
ولها علينا أن نكون أول المصفقين لنجاحها في إنقاذ لبنان بإصلاح نظامه الفريد: مصدر العلل جميعاً، وأولها علة ضيق الصدر بالحوار المسؤول.