.. وأخيراً جاءت المبادرة الأميركية التي يلع في طلبها العرب “لإنقاذ” المفاوضات الثنائية مع العدو الإسرائيلي و”إطارها” السياسي والقانوني: مؤتمر مدريد، بقرارات الأمم المتحدة الشهيرة ومبدأ الأرض مقابل السلام وسائر الهدايا!
جاءت سريعة، مدوية وحارقة: ثلاثة وعشرون صاروخاً على بغداد، بل على كل عربي في كل أرض العرب، وأساساً على أولئك المفاوضين المنهكين والبؤساء في واشنطن.
الذريعة دائماً هي الذريعة: صدام حسين!.
والعقاب دائماً لضحايا صدام حسين، داخل العراق، أي شعب العراق بأسره، وخارج العرق أي الأمة العربية برمتها – ومعها كل العالم الغسلامي، وماكان يعرف بالعالم الثالث، واستطراداً كل من تسول له نفسه مناقشة “السيد” الأميركي، فكيف بالاعتراض على ما يقرره.
ملحوظة طريفة: صدر الحكم ونفذته صواريخ كلينتون بينما “التحقيق” الذي تجريه السلطات الكويتية حول محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق بطل “عاصفة الصحراء” جورج بوش، خلال زيارته للإمارة المحررة لم ينته بعد، ولم تعلن تفاصيل المحاولة الخائبة!.
لكل رئيس أميركي “كيس الرمل” الخاص بتمارينه “السياسية”. من أجل بناء “شعبيته” داخل المجتمع الذي بني على الغرهاب، الفردي بداية، ثم على المستوى الكوني عشية نهايات القرن العشرين.
ومن المصادفات “السعيدة” أن آخر ثلاثة رؤساء أميركيين قد “اختاروا” العرب “كيس رمل” يتمرنون بضربه كلما تهددت شعبيتهم في الداخل الأميركي.
وإذا كان رونالد ريغان قد اختار في البداية ضحايا نموذجيين في أميركا اللاتينية، غرانادا ثم ذلك البائس الذي كان قد وصل إلى سدة الرئاسة في باناما، م انويل نورييغا، فلأن المنطق يفرض أن يبدأ التمرين في “الحديثة الخلفية” لتأديب “الأقرب” والأشد تأثيراً على الداخل الأميركي،
على أن ريغان نفسه لم يلبث أن مد سيف إرهابه إلى العرب عبر الغارة التي شنتها طائراته على ليبيا، ثم بالحملة الشرسة على الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، بوصفهم “إرهابيين”، إضافة إلى إيران وثورتها الإسلامية ذات التأثير الخاص في دنيا العرب”.
أما جورج بوش فقد تخصص بالعرب: طاردت طائراته عواطفهم وهتافاتهم، وشملت عقوباته كل من حلم بالثورة، بمفعول رجعي، حتى إذا أعطاه صدام حسين الفرصة الذهبية المتوخاة قفز لاقتناصها مستنفراً العالم كله ضد العرب كلهم، فاجتاح أرضهم وملك ثرواتهم وصادر إرادتهم واسترقهم من أدنى أرضهم إلى أقصاها.
وها هو بيل كلينتون يتابع مسيرة “السلف الصالح” ويسير على خطاه فيختار الهدف السل وغير المكلف: العرب، فالذريعة موجودة، بل ومحصنة بالقرار الأميركي المعلن والمفهوم تماماً، فلا بد من صدام حسين لكي يتم استئصال الإرادة العربية، وروح المقاومة العربية.
بل لا بد من صدام حسين لكي يتمزق العرب، على مستوى الدول والمؤسسة الجامعة، كما على مستوى الأفراد، إذ يحاصرون بين سفاح الداخل وبين جلاد الخارج: يمنع عليهم مقاومة الأول وإسقاطه، ويتعذر عليهم أن يستسلموا للثاني طلباً “للتحرير”!
وهكذا يقتل العربي مرتين، وتندثر قضيته، في غمار النقاش الفقهي حول “وطنية” مناصرة الغازي الصليبي للخلاص من السفاح “الوطني”، فيأخذه الضياع إلى العدمية واللامبالاة، وتسقط الحدود بين الحلال والحرام، وتتحول الأمة إلى كم مهمل لا وزن لها ولا رأي ولا موقف ولا قيمة حتى ليتعزز الشك في وجودها أصلاً!!.
أخطر الصواريخ ذاك الذي لما يصل،
كأنما المطلوب من كل عربي، ومن أي عربي، أن يطاطئ رأسه وأن يبلع رأيه، وأن يمسح تاريخه بلسانه، حتى لا يصيبه الصاروخ الأميركي الرابع والعشرون!
فالصواريخ التي دمرت حي المنصور في بغداد، بذريعة تأديب المخابرات الفاشلة لصدام حسين، إنما هي رسالة شخصية إلى كل عربي: ليس فقط إلى الحكام والأنظمة، بل إلى كل مواطن في مشرق الأرض العربية كما في مغربها،
والصواريخ هي على ما تبقى من إمكانات صمود في الموقف العربي،
لذلك استبق كلينتون إطلاقها بإبلاغ “شريكه الكامل” إسحق رابين، بالأمر وأهدافه، لكي يوظفها في تصليب موقف إسرائيل الرافض لأية تسوية مقبولة للصراع العربي – الإسرائيلي في طوره الراهن.
كذلك بادر كلينتون إلى إبلاغ “الحليف الإسلامي” تركيا، و”الصديقين” المدينين للولايات المتحدة “بحريتهما” المستعادة أي السعودية والكويت، بأمر الغارة الجديدة على العرب، لكي يطمئن الجميع إلى أنهم في أمان مطلق!.
لن يقلق بيل كلينتون بعد اليوم،
فكلما انخفضت شعبيته في الداخل الأميركي، وأعوزته الأصوات المؤيدة، وجهصواريخه إلى أي هدف عربي، فارتفعت الشعبية المهددة وتزايدت الأصوات حسب عدد الأموات من العرب!.
والعرب كثيرون، يستطيعون أن يوفروا من الأصوات ما يكفي لكلينتون ورابين ومايجور وسائر الحلفاء.
لكن وجود صدام حسين ضرورة لاستمرار هذه الدوامة الدمومية التي تكاد تقضي على المستقبل العربي،
هل من معارض أو معترض؟
هيا، فإن الصاروخ الرابع والعشرين جاهز للانطلاق، ومعه السلام الأميركي الموعود!.