لا حياد إزاء ما يحصل في اليمن. الحياد تواطؤ مع الانفصال، والحياد تحريض ضمني على توغل الأطراف جميعاً داخل أتون الحرب الأهلية.
اليمن أغلى من قياداتها جميعاً، ولا يجوز أن يكون حاضرها ومستقبلها رهينة يتفاوض عليها حكامها، فمن تعذر عليه أن يحكمها قتلها.
… خصوصاً وأن الشعب ما اقترب من هؤلاء الحاكمين إلا لأنهم رفعوا راية الوحدة واستظلوها فنالوا بها البراءة عما تقدم من ذنوبهم وما تآخر!
لقد سلم بوجودهم، كارهاً، مفترضاً أن خير الوحدة يذهب بشرهم، ولكنه لن يقبل أن يذهب الخير كله، وأن تسفح الأحلام والأماني واحتمالات التقدم والكفاية والعدل، ثم يبقى هؤلاء الذين يصرون على تصغير اليمن أو حتى تشطيرها لتظل لهم القدرة على حكم أشطارها!!
رئيس ولو على خازوق، أو على جبل من الجماجم؟!
ليس مقبولاً ذلك المنطق التقسيمي الذي يرى السلطة أهم من الدولة والشخص أو القبيلة أو الحزب أهم من هدف الوحدة المقدس، وليس لأي من هؤلاء المتزعمين رصيد عظيم تهون معه التضحية بالأماني الغوالي.
كذلك ليس مقبولاً هذا الاستخدام القذر لشعار الوحدة، فمرة نلجأ إليها هرباً من الجوع ومن التململ الشعبي، ونفاقاً للإرادة الشعبية وتجنباً لثورة تسقط الحكم والحاكمين، ومرة أخرى نهرب منها ومن موجباتها ولو بتوسل الحرب الأهلية طريقاً للاحتفاظ بالسلطة على الجزء طالما تعذر الاستيلاء باسم الوحدة على الكل.
والناس م ع “الشمال” ولو خسر، لأنه “اليمن”.
فالجنوب هو “البعض، وسيظل “شطراً” منتقص السيادة، مهيض الجناح حتى لو تفجر فيه النفظ أنهاراً… سيما وأن النفط الجديد سيكون كما النفط القديم لغير أهله!!
وليس للحاكمين في اليمن، بشمالها والجنوب، سمعة عطرة، لكن أخطاء علي عبد الله صالح أقل خطورة من خطايا قيادة الحزب الاشتراكي في الجنوب، ثم أنه كان أكثر حرصاً منهم على الوحدة، ولعله ما يزال كذلك، ربما بحكم “شماليته”، أي “يمنيته” الخالصة.
وكان المفترض أن تظهر القيادة الحزبية المثقلة بتجربة دموية قاسية في الجنوب مزيداً من الحنكة والمرونة السياسية لكي تمسح ماضيها وتتطهر من خطاياها فتستعيد مكانتها ودور الحزب في اليمن الموحد، ولو ببعض التنازلات عن المكاسب الحزبية في السلطة.
لكن السلطة ظلت هي الهدف، بل لعل مسلك الحزب قد استنفر الشبق إلى السلطة عند قوى إضافية في الشمال، فتقدمت تطالب علي عبد الله صالح بحصتها، ولعله شجع قوى أخرى على المطالبة بحصتها من أجل أن يوازن “الجنوبيين”، فإذا بقبائل الشمال تواجه القبيلة المارسية في عدن ضمن مناخ من التعبئة والتحرش العسكري المنذر بتفجر اليمن جميعاً.
على أن ما يستوقف في هذه الساعة هو الاصطفاف العربي والدولي إزاء الأزمة الخطيرة في اليمن: ففي حين يلف صمت التواطؤ معظم الدول العربية تتصدر الولايات المتحدة الأميركية ومعها بعض أوروبا لمطالبة القوى النافذة الحفاظ على وحدة اليمن!
ويجيء تحرك القيادة الجنوبية في اتجاه السعودية وسلطنة عمان وسائر أقطار الخليج ليفضح القوى المشجعة على الانفصال والمستفيدة منه بقدر ما كانت متضررة من استعادة اليمن وحدته.
هل كان لا بد لذلك الماركسي (المرتد؟!) أن يعبر المطهر السعودي وهو في طريقه للخروج من دولة الوحدة التي ما دخلها إلا مرغماً وليداري بها فشله وحزبه في تأمين رغيف الخبز لبضعة ملايين من فقراء جنوب اليمن؟!
وهل كان الحضور إلى عمان، بعد طول تردد، للمشاركة في لقاء المصالحة الشكلي، والذي يبدو اليوم وكأنه كان بمثابة ساعة الصفر لمباشرة الحرب، مجرد تحايل للوصول إلى مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض؟!
هل هبط الإيمان فجأة على علي سالم البيض فقرّر القيام وبمناسك العمرة، كذريعة للقاء مع الملك فهد الذي لا يحتاج موقفه وإخوانه من موضوع الوحدة في كل أرض عربية إلى شرح أو توضيح فكيف باليمن التي حذرهم والدهم المؤسس الراحل منها فأوصاهم وهو على فراش الموت بالعمل الدائب على إضعافها لأن “خيركم من اليمن وشركم من اليمن”؟!
لكأنه نوع من الإعلان عن التحالف الطريف بين الشيوعية المجددة والوهابية المحسنة.
وبالمقابل تبدو الولايات المتحدة وكأنها تساند قبائل الشمال والحكم العسكري فيه، مواجهة السعودية “الشيوعية” أو “الشيوعية السعودية” الجديدة!!
ومن الصعب طمس ذاكرة الناس وإسقاط الوقائع التي حفظها التاريخ، فالسعودية هي مصدر الأذى وهي قوة الإسناد الأصلية والقوية لكل قائل بالانفصال في اليمن.
كانت المملكة ضد الإمام يحيى، ثم ضد وريثه الإمام أحمد، ثم ضد وريثه الإمام البدر، بقدر ما كانوا “يمنيين” متمسكين بأرضهم وبقرارهم.
فلما قامت الثورة في 26 أيلول 1962، بقيادة عبد الله السلال، وأعلنت الجمهورية (في الشمال) لم تدار السعودية عداءها لها، بل هي قاتلتها بكل سلاح، مباشرة وبالواسطة واحتضنت الإمام المخلوع، وسلحت القبائل “الملكية” وموّلتها لتخوض حرب إنهاك واستنزاف للجمهورية الوليدة ومعها الجمهورية العربية المتحدة (مصر بقيادة جمال عبد الناصر).
وليس سراً أن السعودية حاولت أن تفرض إرادتها، وأن تختلس المزيد من الأراضي اليمنية، من كل رئيس تولى قيادة اليمن بعد انسحاب القوات المصرية منها.
وإذا كان الجنوبيون هم المتهمون بقتل الغشمي الذي كان أداة التواطؤ لقتل الرئيس اليمني المتميز إبراهيم الحمدي، فإن السعوديين لا ينكرون تورطهم في جريمة التخلص من الحمدي الذي رفض الخضوع لشروطهم برغم كل الإغراءات وكل التهديدات!
كذلك ليس سراً أن السعودية كانت تمول انفصال الجنوب، وأنها كانت تداب على تحريض “الشيوعيين” الحاكمين فيه على تحدي الشماليين باستمرار، وإنها كانت تقدم لهم ما يقيم الأود حتى لا ينهار حكمهم بالقصور الذاتي.
واستعادة هذه الصفحة السوداء ضرورية لفهم ما يجري في اليمن الآن، وتحديداً من طرف القيادة الحزبية في الجنوبية.
وبالتأكيد فقد كان علي عبد الله صالح أقدر على استمالة السعودية إلى صفه، لو أنه رضي بأن يعطيها بعض ما تطلبه في أرض اليمن ونفطه وقراره السياسي.
والتفاصيل مضللة، ثم أن ما يعلن منها هو ما يفيد العاملين لتمزيق اليمن.
المهم أن اليمن في محنة، وإن الكل مسؤولون عنها، وإن اختلفت الدرجات.
والمهم إن التاريخ لن يرحم المتسبب في إعادة تشطير اليمن أو في إغراقه في بحر من دماء بنيه.
والمهم أن الوحدة تستأهل أن يبذل من أجلها الدم، أما الانفصال فمرفوض سلماً فكيف إذا كانت الطريق إليه طوفاناً من دماء اليمنيين؟!
ولن يغفر اليمنيون للمتسببين في الانفصال، لأن الانفصاليين هم هم أبطال الحرب الأهلية من قبل ومن بعد.