يكاد اللبنانيون أن يهنئوا أنفسهم بالسلامة مرتين:
*فلقد فشل اجتياح التدمير والتهجير الذي شنه العدو الإسرائيلي على امتداد أسبوع في تحقيق أهدافه السياسية المعلنة،
*كذلك فقد “فشل” الحكم المرتبك والمنقسم على ذاته والمشغول بهمومه الصغيرة واستهدفاته المحلية والشخصية، في أن ينقل أجواءه المعتلة هذه إلى الشارع، أو – وهذا هو الأدهى – إلى أوساط الجيش وهو ينطلق لتنفيذ إحدى أخطر المهمات الوطنية في تاريخه… الحديث.
الآن، وقد التقط الجميع أنفاسهم يمكن أن يستعيد الناس مسلسل الأخطاء سواء في التصرفات والاتصالات أو خاصة في التصريحات المتهورة حيناً، المتناقضة غالباً، وأخيراً في بعض المواقف ذات الطابع الرسمي والتي كادت تستولد ردود فعل قاسية على مصالح البلاد، أما لخروجها على الأصول أو لتعارضها مع بعض الثوابت الوطنية.
وليس من المبالغة في شيء أن يقال أن الجو الشعبي العام كان أسلم من أجواء الحكم، ربما لأن “الشعب” أكثر التصاقاً بالبديهيات، أو لأنه تجاوز المزايدات والحساسيات الطائفية والمذهبية، ومراعاة مصالح الآخرين على حساب حياته ومصير البلاد.
كان الخطأ يولد وينمو كلما تدرجت صعوداً إلى “فوق”، أما الموقف السليم بل الطبيعي فقد كان “تحت” أي لدى “القاعدة”، أي لدى الجمهور.
والحمد لله أن أخطاء قيادة العدو الإسرائيلي كانت أشنع وأخطر في نتائجها السياسية من أخطاء الحكم في لبنان، فساهمت في تغطيتها أو تحجيمها على الأقل.
أبسط تلك الأخطاء ما ارتكب في حق “المقاومة” كمبدأ ثم كتنظيم أو تنظيمات عاملة على الأرض… وصحيح أنه أمكن ضبط الإيقاع، من بعد، واستدراك العديد من وجوه الخلل، لكن الجرح ترك ندباً على وجه الحكم يحتاج مسحه إلى شيء من الزمن!
لقد ردد بعض المسؤولين – عن وعي أو عن غير وعي – منطقاً مغلوطاً، حتى لا نقول مشبوهاً، يكاد يتماثل مع المنطق الغربي عموماً والإسرائيلي خصوصاً حول المقاومة والمنضوين تحت لوائها الباذلين دمهم رخيصاً والذين يشكلون بعض الشرف الوطني والقومي العام.
فثمة من حاول أن يبرأ بنفسه من “شبهة” المقاومة بذريعة إنها نتاج إيراني، وقوة وافدة وطارئة على لبنان،
ومع التقدير لإيران ودور ثورتها الإسلامية الأممي، ومساهمتها السياسية والمادية محلياً في دعم المقاومة عبر علاقتها الخاصة بتنظيم “حزب الله”، فمن الظلم للبنان وللبنانيين أن يصوروا وكأنهم “أتباع” أو “مؤيدون” لجهة خارجية، وإنهم إنما يقاومون العدو الإسرائيلي الذي يحتل أرضهم لحسابها وبطلب منها وخدمة لأغراضها الخاصة!
كذلك فإن هذا الاتهام لـ “حزب الله” أقسى من أن يقبل، إضافة إلى أنه خاطئ أصلاً.
فشباب “حزب الله” هم “مجاهدون من لبنان”، يقاتلون تحت راية الإسلام، ولكنهم يستهدفون تحرير أرضهم وليس الأرض الإيرانية.
حتى إذا كانت بعض أساليبهم خاطئة أو سلبية في نتائجها فهذا يفرض المزيد من الاحتضان لهم والمناقشة معهم للتصحيح واختيار الأساليب الأكثر فعالية والأقل كلفة… وهذا بالضبط هو موقف “الأهالي”، فهم مع المقاومة ضد إسرائيل، ولكنهم ضد أخطائها التي يمكن أن تتسبب في الاضرار بهم بينما هي لا تؤذي إسرائيل عملياً، بل هي تنفعها في حملتها الدعاوية ضد إرهاب الإسلام والعرب عموماً واللبنانيين منهم بشكل خاص.
وأخيراً فإن مثل هذا الاتهام الظالم لإيران نفسها يزيد من ذرائع العدو الإسرائيلي التي يستخدمها لتبرير احتياجه التدميري.
على أن أخطر الأخطاء بل الخطايا هي تلك التي ارتكبت بحق الجيش ذاته،
فلقد كان في قلب الحكم تيار يريد تسخير الجيش لأغراض لا علاقة لها بمصلحة الوطن أو المواطنين،
وثمة من شن حملة كراهية لتعبئة الجيش ضد المقاومة،
وثمة من كاد يتسبب، إما لجهله وإما لارتباكه وإما لتعجله، في فتنة، ولكن ليس بين المواطنين المختلفين في انتماءاتهم الحزبية، وإنما بين الجيش وبين الشعب… وهي فتنة يمكن أن تدمبر بحيث تبدأ بحادث “عفوي” أو “ابن ساعته” أو مجموعة حوادث، فتفرض على الجيش مسلكاً يحوله من مرجعية شرعية إلى طرف في خصومة، ومن ضمانة للوحدة على عامل تفتيت،
أكثر من ذلك: لقد صدرت عن العدو الإسرائيلي إشارات توحي وكأنها تتوقع استجابة معينة، تمسخ دور الجيش وتخرجه عن طبيعته، وتجعله “حليفاً” موضوعياً لها في التصدي للمقاومة التي يسهل – بالمنطق الغربي – تحويلها إلى إرهاب.
ولقد أثبت استقبال الأهالي للجيش في منطقة عمل قوات الطوارئ أمس، ما كان ثابتاً ولا يحتاج إلى برهان ولكن لا باس من توكيده:
*إن الشعب يعرف إن له عدواً واحداً هو إسرائيل.
*إن الشعب ينظر إلى الجيش كقوة لتعزيز صموده في وجه عدوه الإسرائيلي، ولا يطلبه ليستعين به على المقاومة… أو خاصة على بعضه البعض.
*إن الشعب مع المقاومة، بل هي منه في موقع الابن من أبيه، قد يعنفه إذا أخطأ ولكنه لا ينكره ولا يرميه إلى … الجحيم.
* إن الشعب يتفهم موقف الجيش تماماً، ويرى فيه أن السلامة أكثر مما يرى في موقف الحكم، وهو لو خير لانحاز إلى الجيش، وفي كل الحالات فهو مستعد لحماية هذا الجيش من أخطاء الحكم.
* إن الشعب أصلب من أن يؤخذ بالدعايات الإسرائيلية، وأعظم وعياً من أن يستدرج إلى الفتنة، التي يعرف الجميع أدواتها ومكامنها وأسلحتها المحتملة كما يعرفون المستفيدين منها بالأسماء.
* إن الشعب مرتبط بأرضه بأكثر مما يفترض الحكم، وهو يطلب العود والمساعدة ليبقى، أي “ليقاوم”، والتخلي عنه يكاد يعادل جريمة الخيانة، لأن قبض اليد عن مساعدته في إعادة بناء بيته والثبات فيه لا يمكن أن يعني أقل من المساهمة في تفريغ الجنوب لحساب المحتل الإسرائيلي.
* إن الشعب ليس ضد المفاوضات بالطلق، ولكنه ليس معها بأي ثمن، بما في ذلك وجوده فوق أرضه.
وعسى أن يكون الحكم قد تعلم من أخطائه فلا يكررها لا بحجة المفاجأة، وهو بالمجمل لم يفاجأ (ربما إلا بالمدى وبالشراسة)، ولا بحجة الارتباك الناجم عن العجز، أو بذريعة الخلل في الاتصال مع من لا يجوز أن يقع خلل في التواصل معهم… خصوصاً وأنهم الأقربون، في الحرب والسلم، في المقاومة كما في المفاوضات، وإجمالاً في السراء كما في الضراء.