طلال سلمان

على الطريق الرئيس الهادئ في الزمن الصعب مبروك النجاح… وإلى الامتحان الأول!

وأخيراً اندفع من بين صفوف الطائفة العظمى التي تعاني من دوار “ما بين العهدين” من يقول: ها أنذا، فمبروك لرئيس الزمن الصعب، رينيه أنيس معوض الزغرتاوي.
وحده الشديد الثقة بنفسه وبقدراته وبإمكان اختراق المستحيل هو من يتصدى في مثل هذه الأيام القاسية لتحمل المسؤولية. ولم يكن هدوء رينيه معوض المبطن بكثير من الدهاء والحنكة يشي بمثل هذه الشجاعة التي يتميز بها في العادة المغامرون.
كذلك كان الأمر يقتضي قراراً بمواجهة غير مستحبة مع الأصدقاء. ولقد نجح رينيه معوض في الوصول من غير أن يخسر صديقاً، بل لعله الآن، وأكثر من أي وقت مضى، قد كسب صديقاً كبيراً هو الرئيس سليمان فرنجية الذي تصرف بمسؤولية الذاهب إلى التاريخ والباقي في زغرتا وفي سياسة لبنان بحفيده وسميه الذي دشن دخوله إلى السياسة من باب “الصوت المرجح”.
كان سليمان فرنجية يشترك الإجماع فلما استشعر إنه لم يتحقق به لم يتردد فانسحب موفراً بذلك الفرصة الذهبية لمنافسه القريب الذي يظل أولى بها من صديقه البعيد، فزغرتا تتسع للبنان كله، لاسيما وإن الطائفة العظمى مصدعة الجنبات بأمراض خريفها.
وعلى منوال سليمان فرنجية نسج مخايل الضاهر، ذلك “الرئيس” الذي جاءه المنصب الفخم ذات ليلة صيف فأضاعته عليه وعلى نفسها الطائفة العظمى التي لا تساوي بين أبنائها في المركز وبين أنبائها في “الملحقات” فكيف بأبناء الطوائف الأخرى في عكار والشمال وبيروت وصيدا وصور وسائر الأطراف؟!
كذلك تصرف بشيء من الكبر من رشح نفسه في ادلورة الأولى، إما لتسجيل موقف وإما لممارسة حق ديموقراطي، ثم انسحب حرصاً على توفير الإجماع وإشاعة روحه التوحيدية بين النواب (وبين المواطنين عموماً) وتزويد الرئيس الجديد، رئيس وثيقة الطائف، بالقوة اللازمة لمواجهة آثار العدوان الكتائبي على الدولة والنظام والحكم، ممثلاً بآل الجميل ومن ناصرهم ووالاهم.
كان جورج سعادة، أمس، أكبر بكثير من “الزر” الذي على صدره، كما قدر الياس الهراوي، على تجاوز طموحه الشخصي تسهيلاً لولادة “العهد الجديد”.
مبروك للرئيس الهادئ الآتي لمواجهة أعباء الزمن الصعب.
مبروك للبرلمانيين الذين عادوا نواباً واستعادوا مجلسهم.
مبروك للجنة العربية العليا، القيمة على قرار قمة الدار البيضاء الاستثنائية.
ومبروك لفدائيها الشديد الإيمان بالقدرة العربية واللبنانية، على الإنجاز وتخطي الحواجز والألغام وإزاحة قاطعي الطريق على الحل العربي ولو كان واحدهم برتبة جنرال حرب والآخر برتبة أمير طائفة والثالث برتبة وراتب منتفع بتجارة الحروب والطوائف ولو لحساب الإسرائيلي. مبروك للأخضر الإبراهيمي القوي بالدول عليها والقوي بلبنان على اللبنانيين الضائعين والمضيعين.
أما بعد، فإلى قدر من السياسة…
لقد عادت السياسة، أخيراً، إلى لبنان، عادت إليه آتية ببعضها من الطائف وبعضها الآخر من باريس، وبقرارها من القمة العربية عبر دمشق.
وهي قد وصلت، أمس، إلى الشمال بالطائراتز وصلت محمولة ثم سرت في الأرض كمطر همى بعد جفاف.
وإذا كان من الظلم والتبسيط المخل أن يقال إنه الرئيس الثاني الذي يجيئنا من الطائف وباسمها، بعد بشير الجميل، فمن الإنصاف أن يقال إن الأول أتانا من الطائف عبر إسرائيل وغزوها العسكري وحصارها بيروت واحتلالها بعض الأرض العربية في لبنان وبعض الإرادة العربية في مختلف أرجاء الوطن الكبير، بينما أتانا الثاني عبر “القليعات” التي تقع على بعد رمية حجر من حمص وحماه ودمشق، والتي قام مطارها – العسكري أساساً – بقرار عربي صادر عن قمة عربية، وبتمويل عربي شمل الطائرات (الميراج) والتجهيزات من المدارج إلى الرادار وانتهاء بشبكة الدفاع الجوي طيبة الذكر.
القليعات غير نهاريا، بل إنها النقيض والتفخم الآخر، بقدر ما هو رينيه معوض غير بشير الجميل وصورته المسخ ميشال عون ، بل إنه النقيض أو يجب أن يكون.
وإذا كان الرئيس قد جاء، مرة أخرى، من زغرتا فعساه يأتي بالشمال معه إلى بيروت، وليس بزغرتا وحدها. بيروت هي الأولى وطرابلس هي الثانية، وزغرتا تكون أداة وصل أو تفقد دورها وتتحول إلى أداة فصل تلحس دم لبنان عن المبرد وهي تفترضه ربحاً صافياً للشطار فيها، هي ليست بديل هذه أو تلك. ليست أمة تامة وليست قومية أو قارة قائمة بنفسها ومستغنية عن غيرها ومتعالية على هذا الغير الذي هو الوطن!
عاد الشمال إلى ذاكرة الوطن، أمس، ولكن إلى حين…
حطت الطائرات في القليعات، ثم أقلعت الطائرات عائدة من القليعات. وبعد ساعة واحدة من انتهاء “العرض” عاد المطار المهجور قاعاً صفصفاً. لكأنه ديكور مسرحي بعدما فرغوا من لعب أدوارهم فوقه رفعوا العدة التي جاءوا بها إليه وتركوه ينعي من بناه. بقيت الكراسي متناثرة متنافرة كحال البرلمانيين قبل الطائف وانزوت الصندوقة السحرية التي أنجبت رئيساً للعهد الجديد وقد تكدست من حولها المطاريف الممزقة في حين حفظت الأوراق للتاريخ.
لشد ما انتعش اللبنانيون، يوم أمس، بالمناظر المبهجة التي تابعوها بشغف على الشاشات الصغيرة والتي كانت دخلت خانة الذكريات وعالم الخرافة والحكايات عن أيام زمان وسالف العصر والآوان.
إذن ما زال بالإمكان أن نعيش، وأن ننقذ الجمهورية وشعبها.
حتى من لاحظ شيئاً من الكاريكاتور في المناظر، وشيئاً من التعجل في الوصول على النتائج المحددة والمتفق عليها سلفاً، استعاد التفاصيل أكثر من مرة ليشبع عينه ووجدانه بصورة هده “الخوارق” الديموقراطية في بلد ممزق بالحرب الأهلية، بآثامها المريعة.
صندوقة سحرية تطوف على نواب يجلسون صفوفاً، يضعون فيها أوراقاً صغيرة في مظاريف مقفلة، ومطرقة تقرع، وحاجب جهوري الصوت يقرأ الأسماء بينما الآخرون يحصون الأصوات، ومع إعلان النتيجة ينتهي زمان وعهد ورجال ويبدأ زمان آخر وعهد آخر برجال آخرين!
في اليوم التاسع بعد الأربعمائة من لبنان من دون رئيس للجمهورية، وفي السنة الخامسة عشرة للحرب الأهلية الطاحنة التي كادت تذهب بالجمهورية وشعبها يمكن أن تحدث مثل هذه المعجزة، وفي جو يكاد يكون نموذجياً برغم بهورات جنرال ا لحرب وفرماناته الهمايونية (من دون سلطنة ولا سلطان)!!
افتتحت الجلسة. اختتمت الجلسة قالها ثلاث مرات بين الواحدة والأخرى مجموعة طرقات على الطاولة الخشبية المتهالكة في نادي الضباط بمطار القليعات العسكري. فانتهى “بين العهدين” وانفتحت صفحة جديدة في تاريخ لبنان الحديث… لبنان ما بعد الغزو الإسرائيلي والحكم الكتائبي الذي ولده سفاحاً في ثكنة عسكرية بالفياضية.
عادت الشرعية إلى موئلها واستعادت اعتبارها، فولدت في نحو الساعتين مجلساً نيابياً بالرئيس ونائبه وهيئة المكتب، وإقراراً لوثيقة الوفاق الوطني المتوافق عليها في الطائف، ورئيساً للجمهورية باليمين الدستورية الخطاب – الخطة للعهد الجديد.
الشرعية هي التي تلد المكان والزمان (والمراتب) وليست نتاجاً لهما.
المطار يمكن أن يصير حرماً، وقاعة الطعام في نادي الضباط يمكن أن تتحول إلى “ندوة نيابية” تتسع على ضيقها، وفي زمن الضيق، لألف صديق، بدءاً بالممارسة الديموقراطية، مروراً باستعادة اللياقة السياسية وانتهاء بتوكيد الدور والمكانة والحق بالوجود في ظل رعاية عربية ودولية شبه شاملة.
… وفي أي حال، فإن الدول عبر سفرائها المعتمدين والمتواجدين في بيروت، كانت أول الواصلين إلى المطار الذي كان عسكرياً فصار حاضنة للشرعية ومسقط رأس العهد الجديد.
هي عودة إلى السياسة، العمل السياسي، الصراع السياسي بالأدوات والأساليب والوسائل السياسية المشروعة، أو يجب أن تكون،
ولا سياسة مع السلاح، الميليشيات تصنع الحروب الأهلية وتدمر الأوطان ولا تبنيها، كائنة ما كانت ادعاءاتها ونواياها.
وهي بداية رحلة عكسية للخروج من الحرب، إذنن أو يجب أن تكون. تنتهي الميليشيات أو تنهي، وتعود الأحزاب التي التهمتها الطوائف وحولتها إلى عصابات مسلحة.
تعود الحريات والحقوق جميعاً، إذن حرية التعبير، حرية الانتخاب، حرية المعتقد، حرية التنظيم السياسي، حق الإضراب، وحق محاسبة المسؤول مهما علا مقامه وكبر شأنه.
تعود الأولويات إلى سويتها: الوطن أهم من النظام، والدولة أهم من الحكم، والرئاسة أهم من الرئيس. والشعب أهم من الجميع. وإذا كان ممكناً تحمل عار توزيع الدولة كوتا للطوائف، لفترة أخرى، فمن المهم الفصل المطلق بين شخص الرئيس ومسؤولياته وبين “حقوق” الطائفة، فمحاسبة الرئيس المخطئ أو المفرط أو الطاغية ليست إدانة لطائفته ولا يجب أن تكون.
ثم إن لبنان وحدة لا تتجزأ القليعات لبنان بقدر ما هي جونيه، وابل السقي لبنان بقدر ما هي ريفون، وعاليه لبنان بقدر ما هي بيت مري، وزحلة لبنان بقدر ما هي حاصبيا وراشيا وعيتا الفخار، وبعلبك لبنان بقدر ما هي زغرتا وإهدن وبشري وحدث الجبة.
يكون لبنان كله أو لا يكون. يكون بشماله والجنوب المغيبين والمغبونين. بالبقاع المنسي تماماً وكأنه غير موجود، بالجبل الممزق بالتهجير، والضاحية المدمرة بالقهر الطائفي، وبيروت الأميرة المبتلاة بطاعون الميليشيات الطائفية من قبل أن يجيء ليجهز عليها جنرال التدمير والقتل الجماعي.
مدى ميشال عون “الحيوي” أقل من ثلث ساعة.
اربطوا الأحزمة استعداداً للإقلاع، يمكن أن تدخنوا نصف سيكارة. اربطوا الأحزمة استعداداً للهبوط. انتهىت الرحلة “بين العهدين” وصلت من لبنان المقتول بالطغيان إلى لبنان المقتول بالحرمان، عبر لبنان المختطف والمحتجز كرهينة. متى تتوحد اللبنانات، أيها الآتي باسم قرار القمة ومنطلقه دمشق، وعير الطائف وشرفها الوثيقة العربية للوفاق الوطني؟!
مدى ميشال عون “الحيوي” ثلث ساعة.
والسفراء هنا يقولون، بوجودهم كما بألسنتهم، إن مداه قد انتهى وصار لا بد من طي صفحته بالكامل.
وهو ينتهي بالقرار الأول للرئيس الأول.
فالبدار البدار أيها الآتي باسم هذا الجو العائلي الحميم الذي عبقت به أجواء القليعات. وانتعشت به طرابلس (وتفجر في زغرتا وإهدن زغردات فرح ومشاعل تعوض غياب الكهرباء).
لقد تلاقى العائدون من باريس مع القادمين من بيروت فاستأنفوا على الفور أحاديثهم من حيث توقفوا، روح الطائف ما زالت حية وفاعلة فلا تضيعها ولا تترك وهجها ينطفئ.
لم يكن لدى النواب الكثير ليقولوه، حتى التشاور في ما بينهم كان قد استنفد غرضه ووصل إلى أهدافه… ألم يكن اسم الرئيس في صدر الصفحات الأولى باعتباره ثمرة الإجماع على ضرورة الإصلاح وتجديد الدولة وتطوير النظام الفريد؟!
مع انتخابك بدأ الزمن الصعب، أيها الرئيس الهادئ حتى لتبز الأخضر الإبراهيمي دماثة ودبلوماسية واتقاناً لفن الحديث الذيب يقول من غير أن تقول.
وفي طرابلس كانوا يتفرجون، أمس، على السياسة والسياسيين، على الطبيعة، أما في سائر أنحاء لبنان فكانوا يتفرجون عليها وعليهم عبر الشاشات الصغيرة، أهكذا يكون النواب؟ّ أهكذا يتصرفون؟! أهكذا يكون الانتخاب؟! أهكذا يصير هذا النائب صاحب دولة وذاك صاحب فخامة؟!
والمطلوب أن ينتقل الناس من الفرجة على السياسة إلى المشاركة في العمل السياسي.
المطلوب انتصار الجمهورية بأبناء الجمهورية على متعهدي تدمير الجمهورية بالمدافع أو بامتيازات الطوائف لا فرق.
والنصر لا يكون إلا بالناس، بالشعب،
مبروك، وإلى العمل فوراً يا الآتي من زغرتا، باسم الحل العربي لمأساة لبنان.
وامتحانك الأول حكومتك التي يجب أن تعلن بأسرع مما ينوقع المنكرون عليك شرعيتك وعلى اللبنانيين حقهم في الحياة.
والنجاح الأول يفتح الباب عريضاً للنجاحات الأخرى،
أما التردد والتهيب من التظاهرات المبرمجة وأعمال الشغب التي لا توفر مقاماً أو مرجعاً أو مؤسسة، فهو مقتل دولة المؤسسات التي تعهدت بأن تكون الأول في مباشرة بنائها.
ولنحفظ معاً حالة الانتعاش التي شملت الجميع، بما في ذلك الجيش الذي حمى بعث الشرعية وإعادة الروح إلى الجمهورية التي تكاد تندثر.
ومشكورة جهود جميع من وفر فرصة النجاح الأول للمجلس والرئاسة والرئيس… وهم معاً عناوين العهد الجديد.

Exit mobile version