“قصر الشعب” يعتلي “الربوة” ويطل على دمشق بمهابة تفتقد الرقة أو اللمسة العاطفية وشبه الدينية التي تميّزت بها العمارة الشرقية أو الإسلامية والدمشقية تحديداً.
اللون من الخارج أميل إلى الرمادي، وفي الداخل تسري برودة الرخام عبر القاعات الواسعة والممرات الطويلة والسلالم المخفية لاستكمال شروط الصمت في الحركة،
لكن هو القصر الذي لم يكسر بعد حاجز الغربة ولما يكتسب “الشرعية الشعبية” كان أميل إلى الدفء، أمس، الخميس في 27 تشرين الأول، وكان يمكن ملاحظة “الإلفة” وهي تنمو مستنبتة شيئاً من الود الذي ينتظر لغته التطبيقية الخاصة،
كانت الأعلام الأميركية ترتفع، للمرة الثانية في تاريخها، في قلب عاصمة الأمويين جنباً إلى جنب مع العلم العربي السوري، ولكن بلا مبالغة، الرصانة تلقي ظلالها على التصرفات جميعاً وبطبيعة الحال على الكلمات… وبالمقابل فإن الريبة قد تضاءلت وتجلت واضحة الرغبة في تصديق الالتزام بالمعهد المقطوع.
توارت اللهجة الاعتذارية من نوع: إنه العصر الأميركي، إنه عصر القطب الأوحد، ولا يملك أحد أن يتجاهل هذه الحقيقة، إذن فلا بد من التعامل مع الواقع، أقله اتقاء لشر الاستعداء وسوء الفهم والتحريض الإسرائيلي المستمر، إضافة إلى التركة الثقيلة للخصومة السياسية الطويلة مع واشنطن بالذات الخ…
التحية بأحسن منها. والضيف الاستثنائي بادر التحية قبل أن يركب الطائرة بادئاً جولته في المنطقة، بأن أضاف دمشق، ربما للتوازن وإظهار حسن النية تجاه “الذين لا يوافقون على المعاهدة الملكية ولا يقاتلونها برغم اعتراضهم عليها، وبرغم قدرتهم الأكيدة على المشاغبة وتشجيع المنادين بإسقاطها وموقعيها… العرب”.
ثم إن ما تسمعه دمشق من الزائر الأميركي الكبير باتت مشوقة لأن تسمعه من معظم الأشقاء العرب الذين هجروا اللغة والعادات والسياسات القديمة! وأشاحوا عن “الأخوة” طلباً “للواقعية” والانسجام مع منطق النظام العالمي الجديد.
كانت الدقة في اختيار الكلمات والتعابير هي الطابع الغالب على حديث “الرئيسين” وأجوبتهما على الأسئلة المتشابهة والمركزة على موضوع محدد: السلام وشروطه، المقبولة منها والمرفوضة، والسبيل إلى “تليين البداية”، على حد تعبير الطرف الآخر، بلسان وزير خارجية إسرائيل شيمون بيريز.
كان حافظ الأسد ناجحاً في استخدام حنكته الفائقة وتمكنه من موضوعه لكي يؤكد على أن الأجوبة المفتقدة مطلوبة من إسرائيل وليس منه. وكان صعباً على بيل كلينتون أن يرفض منطقاً متماسكاً يقوم على حقائق ووقائع موضوعية بينها أن إسرائيل هي الأقوى، وجيشها يحتل ألارض “الآخرين”، وأنها تحظى بامتياز الرعاية الأميركية الدائمة (سلاحاً وتمويلاً) بما ينفي ذريعة الخوف.
ولقد أظهر كلينتون أنه يتفهم أسباب اعتراض دمشق على المعاهدة الأردنية – الإسرائيلية، وهي “الإنجاز التاريخي” الذي حمله إلى المنطقة لكي ينال نصيبه من النجاح فيه. لذا فقد كان حريصاً، مع اعتزازه بدوره فيه، على تطمين دمشق إلى أنه طرفاً في التواطؤ عليها عبره، كما لم يكن يستهدف التواطؤ عليها حين رعى الاتفاق الأشوه الآخر: غزة – أريحا.
“لهم سلامهم ولكم سلامكم. هم غيركم، ونحن مع ذلك النوع من السلام من دون أن نرفض بالضرورة مفهومكم الخاص للسلام. إذن فلا بد من تفاهم على صيغة محددة لـ “سلام الشجعان” ولكن مع الأخذ بالاعتبار الخطوات السلمية التي تمت فعلاً”.
“لكم حقوق المحارب الذي يتقدم إلى السلام عبر خنادق الدم والشهادة والتضحيات، أما “المصالح من زمان” والذي اضطر إلى إرجاء الإعلان عن عشقه القديم حتى لا يقتله استعجاله أي نوع من السلام، فليس له حق الاشتراط والتعديل، ويكفيه أن ينال أمان التوقيع الذي كان ينافسه عليه “شريكه” السابق، الفلسطيني”.
يتقن بيل كلينتون لغات عديدة،
ومن يتابع خطبه وتصريحاته المتعددة خلال جولته التي شملت حتى الآن مصر (وشبح اتفاق غزة – أريحا) والأردن و”وادي المعاهدة” وسوريا وإسرائيل، لسوف يكتشف أن لغته لم تكن واحدة تماماً، وأن نبرة صوته قد اختلفت بين محطة وأخرى، ليس فقط لمراعاة اختلاف الأمزجة، بل أساساً لتجنب الاستفزاز والحفاظ على موقع “الراعي” و”الوسيط النزيه” و”الشريك الكامل” في العملية السلمية… وقبل: الحريص على تحقيق نجاح دبلوماسي باهر يمكنه توظيفه في الانتخابات أكثر منه في التاريخ!
لقد ألزم نفسه بأن ينجح لأن عودته فاشلاً أو بنصف نجاح ستكلفه خسارة داخلية خطيرة تحوله في النصف الثاني لولايته إلى “حكومة تصريف أعمال” ليس إلا…
من هنا إنه في المحطة الأولى قفز من فوق البروتوكول ليزر صاحب “التوقيع الأول” في ضريحه: أنور السادات… فبدا وكأنه يزور إنجازاً أميركياً (وإسرائيلياً) في مصر أكثر منه زائراً لحسني مبارك ومهتماً بمصر ودورها المتهافت،
وفي الدقائق التي أمضاها مع ياسر عرفات تحدث بلهجة المؤنب والمحذر والمحرض، وطالبه بما يعرف أنه أعجز من أن ينجزه. بل هو قد التقى عرفات كطرف في جملة أطراف فلسطينية طالما أنه يواجهها فينتصر عليها ويستأصلها بالتعاون مع الاحتلال، بما يضعه في موقع “إما قاتل وإما مقتول”.
وبالمقابل فهو قد عامل الملك حسين وكأنه هو لا عرفات الشريك الحقيقي لإسرائيلي، داخل فلسطين وخارجها، وهو موضع الرعاية والعناية والمساعدة المادية المباشرة، سلاحاً وإعفاء من الديون وتمويلاً لبعض المشروعات الحيوية.
أما إسرائيل فقد أعطاها ما لم تنله من أي رئيس أميركي آخر، بما في ذلك هاري ترومان، الذي استشهد به كلينتون ليؤكد عراقة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية الخاصة جداً والدائمة: لقد اعترف لها بالقدس عاصمة، فزارها على هذا الأسا، وفيها أجرى لقاءاته جميعاً، وفيها نام… ولم تكن مصادفة أن يلح إسحق رابين في خطابه التكريمي، وأمام الكنيست، وأربع مرات متتالية، على أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
أكثير بعد هذا كله أن يتحدث كلينتون إلى دمشق بلهجة قد تهدئ من مخاوفها وقد تطمئنها إلى نواياه الشخصية أكثر مما إلى سياسة إدارته التي تكاد تكون إسرائيلية بالكامل؟!
التاريخ ليس كتباً صفراء، وليس مجرد سرد ميت لوقائع الماضي، مزورة أو معدلة وفق ما يشتهي صاحب السلطان.
إنه في هذه المنطقة داخل الهواء وأشعة الشمس وحبات التراب والرمل. إنه في الماء وفي الذكريات وفي الواقع المعاش. الاسم يجيء من التاريخ ويحمل أصحابه إليه، والحلم ينطلق من التاريخ وكذا السياسة.
لا أحد ، لا مكان، لا شيء هنا خارج التاريخ.
وبيل كلينتون زائر عابر لا تكفيه جولة واحدة لكي يقرر أياً من التواريخ التي كررت على مسامعه هو الأصح وهو الأفعل والأعظم تأثيراً في صياغة الغد،
ولو أن كلينتون أكثر إطلاعاً على التاريخ وأكثر فهماً لأثره على الناس في هذه الأقطار التي يجول فيها لما تورط في مثل هذه المواقف المتشنجة من “المسلمين” و”إرهابهم”، مع محاولة بائسة للتمييز بين الإسلام وبين معتنقيه، وبغض النظر عن فهمهم لموجباته وطريقة تعبيرهم عن إيمانهم بوظيفته السياسية.
وآخر النماذج الصالحة لتقديمها كضحية “للإرهاب الإسلامي” هي إسرائيل.
ومشكلات المسلمين في علاقتهم بالإسلام وفي وظيفته السياسية أكثر تعقيداً من أن يستوعبها (وبالتالي في أن يحلها) بيل كلينتون.
وسيكون هذا الخطأ أحد الموانع الأساسية لتكريس كلينتون كرجل تاريخي أو كمساهم في إنجاز تاريخي.
وليس الاعتراف بإسرائيلية القدس هو الباب لدخول التاريخ بل لعله الباب للخروج منه.
ولن تقدم دمشق نفسها إطلاقاً كباب بديل أو باب خلفي، فهي والتاريخ صنوان ثم أنها “مقدسية” في روحها، بمعزل عن اشتباك الوكلاء حول من هو الأجدر بالوصاية على مدينة الأنبياء.