الهموم القومية أعلى وأثقل من أن تدانيها القمة، برغم إنها استثنائية،
ولقد تعود العرب أن تكون “الاستثنائية” من القمم هي الأخطر على قضاياهم القومية، فهي غالباً ما تعقد بالطلب ولحساب الخارج، والولايات المتحدة الأميركية (ومعها إسرائيل) على وجه التحديد،
والثابت في ذاكرة المواطن العربي إن كل قمة استثنائية قد انتهت بتنازلات قومية تكاد تكون في مستوى الكارثة، حتى ليمكن إجراء رصد التنازلات طردياً باسترجاع مواعيد القمم الاستثنائية، وبالتحديد ما بعد قمة الرباط الشهيرة في العام 1974.
ومن أسف أن بغداد تبدو “محطة تحويل” في هذا السياق، خصوصاً إذا ما استعيدت قرارات قمة الحد الأدنى سيئة الذكر فيها، خريف العام 1978، والتي حددت فيها عقوبة الخيانة القومية للسادات بـ “طرد” مصر من الجامعة العربية وإخراج هذه المؤسسة المهرمة من القاهرة إلى تونس و”قطع” العلاقات الدبلوماسية مع نظام الصلح المنفرد.
الثابت في ذاكرة المواطن العربي أيضاً، إن القمة “العادية” كان يفترض أن تلتئم في المملكة العربية السعودية، منذ سنوات، لكن مملكة الحذر والريبة أبعدت عن نفسها هذه الكأس، وتنازلت المرة تلو الأخرى عن “حقها” لغيرها من العواصم متكلفة بالنفقات والمصاريف عموماً.
ومع “الاستثناء”، فلقد كانت المملكة الأضعف من أن تتحمل فشلاً واحداً، تترك للعواصم الأخرى أعباء التنازل ووصمتها مقدمة بذلك دليلاً ناصعاً على الايثار!
فما يفتدى بالفلوس أمره هين مهما غلا ثمنه،
وفي التقديرات الأولية إن قمة بغداد هذه ستكلف عرب النفط، وبالذات منهم المملكة السعودية وأقطار الخليج، أن ينسوا نهائياً ويشطبوا من دفاترهم “ديونهم” التي قدموها مساعة للنظام العراقي في حربه مع إيران، والبالغ قدرها حوالي ستين ملياراً من الدولارات،
وفي تحسب المتحسبين من هؤلاء إن النظام العراقي سيتقدم من عرب النفط بفاتورة جديدة تناهز بقيمتها الفاتورة الأولى (60 ملياراً) هي كلفة إعادة بناء ما دمرته الحرب وفق تقديراته،
على إن المهم هو ما يتصل بالنتائج السياسية المحتملة للقمة العتيدة، أي بالفاتورة التي سيدفعها العرب جميعاً من حاضرهم ومستقبلهم، وهنا مكمن القلق على المصير.
فقمة بغداد محكومة بالتنازل، لأسباب موضوعية تتعدى نطاق نوايا المشاركين فيها،
ونتائجها ستكون حصيلة جمع التنازلات التي قدمها كل نظام على حدة، وفي الطليعة منها النظام الفلسطيني!
أليس شعار القمة، لاسيما إذا ما كانت استثنائية: سيروا بخطى أضعفكم؟!
أليس مجرد انعقاد القمة أهم من الهدف منها، ومكان انعقادها أخطر من النتائج المقدرة لها؟!
ثم، أليس “الإجماع” هو المطلوب توكيداً للتضامن القومي؟!
وأخيراً، أفليس أهل مكة أدرى بشعابها، فلماذا لا يكون أهل فلسطين أدرى بشعابها، وكذلك أهل كل قطر على حدة،
إذن فليتوافق الجميع على ما يحقق مصلحة كل منهم،
وحاصل جمع مصلحة كل منهم ليس بأي حال مصلحة عموم العرب، أي الأمة، خصوصاً في هذه الفترة الحاسمة من تاريخها حيث الشعار الأثير هو: “يا رب رأسي” أو “أنا ومن بعدي الطوفان”!
ربما لهذا كله يردد المواطن العربي، في سره والعلن، هذه الأيام: اللهم إننا لا نسألك رد القضاء ولكننا نسألك اللطف فيه،
ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف… لاسيما على مستوى القمة!
من دفتر السفر…
ليس للبنان صورة محددة في ذهن أخوانه العرب، اليوم،
لم يعد للبنان القديم مكان، خارج الذكريات والحنين إلى الماضي الجميل وألا ليت الشباب يعود يوماً!
لم يعد لبنان هو الجامعة أو المدرسة الممتازة،
صار في كل قطر عربي، وبالتحديد أقطار الجزيرة والخليج العربي، جامعة أو أكثر، ومدارس ممتازة ومن كل جنسية، بما في ذلك “اللبنانية”!! ولعل مستوى العديد من هذه الجامعات أرقى من مستوى الجامعات الصامدة في لبنان حتى اليوم، وأرقى عموماً من جامعات دول العرب الفقراء،
بل إن هذه الجامعات الجديدة أخذت من جامعات الأقطار الفقيرة خيرة أساتذتها ومدرسيها والعلماء،
وليس في هذا خسارة على أي حال، فالخريجون هناك عرب كما هنا، لكن المشكلة إن ذلك كله يتم بلا تخطيط، وأحياناً يكون نجاح الأخ على حساب أخيه وليس نجاحاً مشتركاً لكليهما، وبالتالي لمجموع الأمة.
ثم إن قلة عدد السكان في أقطار الجزيرة والخليج، الغنية بحمد الله، تعطي فرصة أفضل للتخطيط واختيار الاختصاصات، وإمكان التحصيل العالي في أرقى جامعات العالم المتقدم…
كذلك لم يعد لبنان هو مطبعة العرب وصحافتهم وكتابهم ومنتداهم الفكري،
فمع التهام الحرب الأهلية للهامش الديموقراطي في لبنان لم تعد المسألة نوعية بل باتت مسألة إمكانات، وبديهي إن الأغنى هو الأقدر على شراء المطابع الأحدث والأغلى، والأقدر على إصدار صحف بصفحات أكثر وألوان متعددة، وكتب أعظم أناقة وأفخم في الشكل والإخراج وأسماء المبدعين الذين لم يعودوا يجدون غضاضة في اسم الناشر ومكان النشر طالما استوى الماء والخشب.
وعلى مستوى آخر، فإن لبنان لم يعد هو المرفأ والمطار والمعبر الأساسي (خط الترانزيت) ومركز التجارة المثلثة الخ،
صار في كل عاصمة، ولو ثانوية، كعواصم المشيخات داخل دولة الإمارات، مطار أضخم وأفخم من مطار بيروت “الدولي” بشهرته وبإمكاناته وتجهيزاته ووسائل الاتصال الحديثة.
بل إن لبنان “الأخضر – سابقاً” لم يعد هو مصدر الخضرة والفواكه التي تضرب بها الأمثال… بدأت أقطار الخليج تنتج حاجتها محلياً، أما السعودية فتنتج ما يفيض عن حاجتها، ولو بتكلفة عالية، فتصدر منه حتى إلى خصومها في العقيدة كالاتحاد السوفياتي (تبيعه قمحاً، هذه الأيام!)
أما في حقل المداجن ومزارع الأبقار، وفي مجال تصنيع الألبان والأجبان وسائر مشتقات الحليب، وإلى حد كبير سائر الصناعات الاستهلاكية لاسيما في مجال التموين والتغذية، فإن هذه الأقطار بمعظمها تجاوزت حد الاكتفاء الذاتي وبدأت في تصدير منتجاتها ولو بخسارة.
لهذا كله ينبغي التفكير جدياً بصورة لبنان ما بعد الحرب، إن هي انتهت ذات يوم… فلبنان القديم مات على جميع المستويات، وإن نحن لم نع هذه الحقيقة صرنا مثله أثراً من الماضي قد يستثير الحنين وقد يهيج الذكريات لكنه لا ينفع في حاضر الأيام ولا في المقبل منها.
وبشكل عام فإن ثمة خليجاً آخر أو جزيرة غير التي عرفناها في الماضي. لقد قامت فوق الرمال وشظف العيش دنيا جديدة مختلفة تماماً عن تلك التي في البال وذكريات الماضي الذي لم يعد له أصل واضح حتى في ذاكرة أهل المنطقة، سواء منهم بؤساء الماضي أو أغنياء الحاضر والمستقبل.
وبعيداً عن السياسة وتصنيفات الأنظمة فقد نشأت أجيال جديدة واعدة، مختلفة كلياً عن صورة الآباء والأجداد التقليدية.
وفي مختلف وجوه الحياة، في الدولة خارجها، تلتقي أفواجاً من الكفاءات الشابة ومن المؤهلين والمتميزين الذين بدأوا يمارسون دورهم في بلادهم ويؤثرون في الحياة اليومية، وفي الدورة الاقتصادية العامة.
ولقد طورت الأنظمة الحاكمة في تلك الأقطار نفسها، بالضغط من الخارج (واشنطن) والداخل، فبانت قادرة ومستعدة لاستيعاب الأجيال الجديدة طالما أثبتت “براءتها” من الطموح السياسي!
على إن ما يجب أن يشهد به لهذه الأجيال إنها تحاول تحقيق ذاتها، وإنها تمارس نوعاً من “الوطنية” نوعاً من الشعور بالذات، ولقد تلمس فيها شيئاً من الزهو، ورضا عن النفس مبالغاً فيه.. فهم لم يعودوا في أسفل السلم، ولم يعودوا ينظرون إلى الأجنبي أو إلى العربي الوافد (خصوصاً) وكأنه لا يستغني عنه.
إن رياح التغيير تجتاح العالم،
و”عالمنا” العربي قد تغير وهو يتغير كل يوم، بغض النظر عن رأينا في طبيعة هذا التغيير وهل هو لمصلحة الأمة أو ضدها،
ولبنان قد تغير فعلاً، وهو يتغير كل ساعة، ولم يتبق منه الكثير، وفي الاتجاه الأسوأ،
فمتى تجيء لحظة الصحوة.. هنا وهناك؟!