صارت القمة اللبنانية – السورية، بلغة الصحافيين “خبراً مفتوحاً”، تأتي “الاضافات” على “المقدمات” الثابتة كل ساعة، وتتوارد التفاصيل تباعاً لتعزز التوجه وتؤكده، من أوراق العمل المطروحة كأساس لفتح باب النقاش، إلى الردود عليها، إلى الاعتراضات على المبدأ، إلى استعادة ما يفيد من “الخلفيات”، وانتهاء بالاشتراط المتبادل والالحاح على ضرورة توفير أسباب النجاح.
وفي انتظار التحديد القاطع للموعد الرسمي، وهو “العنصر” الوحيد الناقص حتى الآن، يتركز الجدل على موقع هذه القمة، بتوقيتها وجدول أعمالها المفترض، في سياق العمل لتوفير مخرج للإنقاذ، يمكن اعتماده مستقبلاً كمدخل إلى حل وطني للمسألة اللبنانية، بكل أبعادها وتشعباتها المحلية والإقليمية والدولية.
وليس من الخطأ النظر إلى القمة العتيدة على إنها “قمة أولى” أو هكذا يجب أن تكون، بين الرئيسين أمين الجميل وحافظ الأسد، تتجاوز ما قبلها وتجبُّ النتائج البائسة التي انتهت إليها جميعاً، ولاسيما آخر القمم وأفشلها وأبأسها وهي تلك التي انعقدت في الثلث الأخير من سنة 1985.
فوفقاً لهذا المنطق فإن “الاتفاق الثلاثي” قد ولد من رحم ذلك الفشل، وإنه كان بمثابة بدل عن اتفاق تعذر الوصول إليه مع “الأصيل” فتم التوجه نحو “الوكيل” وفي التقدير إمكان الاستدراك والوصول إلى نهاية سعيدة عبر التوفيق بين الجميع.
وهي “قمة أولى” أو يجب أن تكون ليس فقط لأن ما كتب قد كتب وما حدث قد صار شيئاً من الماضي، بل لأن الفشل والفشل المضاد يجب أن يساعدا على تحديد أدق لطريق النجاح ومستلزماته،
ثم إنها قمة موضوعها ما بعد أمين الجميل وليس ما يمكن أن يعطيه أمين الجميل خلال ولايته ولما يتبق من مدتها إلى الثلث، وهو ما تعودنا أن يخصصه الجميع – بمن فيهم رئيس الجمهورية – لمعركة الخلف وطبيعة العهد “الجديد”.
فإذا ما نظر على هذا الأساس أمكن للعديد من الأطراف أن يتخففوا من بعض مطالبهم وأيضاً من بعض تجاربهم المريرة وذكرياتهم المرة وجراحهم العميقة التي تشوش على البصر والبصيرة، وتحصر الموضوع دائماً في إطار الأشخاص.
وبصراحة: فإنه من الصعب إلى حد الاستحالة أن نتخيل إمكان العودة بالعلاقات بين أمين الجميل وبين كل من رشيد كرامي وسليم الحص ونبيه بري ووليد جنبلاط (وسليمان فرنجية بطبيعة الحال) إلى سوية معقولة ومقبولة يؤسس على قاعدتها مشروع حل وطني لأزمة البلاد والضائقة التي يعاني منها العباد معاناة قاسية تجعلهم يكفرون بالوطن نفسه فكيف بالقيادات!!
على هذا يصبح ضرورياً أن يتقدم المشروع على الأشخاص جميعاً، فالحل هو الذي يحدد مواقع القادة والسياسيين وليس العكس.
وبصراحة أيضاً: لا بد من الفصل بين أمين الجميل وموقع الرئاسة والرئاسات الأخرى ومواقع السلطة في النظام عموماً. إن النظر إلى كل ذلك عبر شخص أمين الجميل، بكل تاريخه الحافل وبكل مشاكله مع محيطه ومع القوى والتيارات الأساسية في البلاد، لا يؤدي لا إلى حل أزمة البلاد وبالتالي نظامها ولا حتى إلى حل أزمة أمين الجميل الذاتية.
إن أمين الجميل، كأي شخص آخر وبغض النظر عن موقعه، ذاهب، أما لبنان فباق وكذلك شعب لبنان بمطامحه وتراثه وتاريخه وواقعه الجغرافي وارتباطه المصيري بمحيطه وبقضايا هذا المحيط.
ولقد آن الأوان لأن ننظر إلى مسائل الاصلاح السياسي نظرة واقعية فندرك أن مناخ الحرب الأهلية ليس هو المناخ الصالح لتحقيقها، لاسيما في بلد كلبنان يتعامل العالم مع شعبه على إنه “اتحاد” أو “ائتلاف” بين الطوائف، ومع أرضه على إنها معبر للمصالح يمكن توظيفها كاسفنجة تمتص معطيات الصراع العربي – الإسرائيلي، في حين إنها مستهدفة بالدرجة الأولى بأحلام التوسع الإسرائيلي التي حولها الغزو الأخير إلى واقع يقاتله اللبنانيون حتى اليوم بالسلاح.
هوية لبنان ودوره القومي والتزامه بأهداف نضال أمته: تلك هي المطالب، وتلك هي أهداف “القمة الأولى”،
أما ما تبقى من الشؤون والشجون الداخلية، وما أكثرها، فستبقى ميداناً واسعاً للصراع السياسي في البلاد بشرطين:
أولاً – أن لا تسد القمة، باب هذا الصراع الطبيعي والمستمر، ولا نظن إن ذلك في مصلحة سوريا أو بين اهتمامات قيادتها التي تتفهم تماماً مطامح الفئات الشعبية المستشعرة بالغبن إلى التغيير والاصلاح إحقاقاً للعدالة والمساواة.
والثاني – أن ينتهي عصر السلاح والمسلحين والميليشيات بضمانات تحقق عودة الدولة المركزية القومية بعدلها لا بقدرتها – أو قدرة الحاكم أو المتحكم فيها – على البطش بالمظلومين والمغبونين والقلقين على موقعهم ودورهم ناهيك بحقوقهم كمواطنين في مواردها وإدارتها وأساساً في مركز القرار ومواقع السلطة فيها.
وليس من المصادفات أن تشتبك مع الجهود المبذولة لعقد القمة، مساعي إسرائيل لتخريبها، أو بحد أدنى للضغط على الرئيس اللبناني حتى لا يحل شيئاً، ثم التعقيدات التي أصابت موضوع الوجود الفلسطيني في لبنان والتي جعلته بنداً أساسياً على جدول أعمال أي لقاء لبناني – سوري على مستوى عال.
وليس من المصادفات أيضاً أن تتقاطع حول موضوع الوجود الفلسطيني الوساطات والمساعي الحميدة العربية وغير العربية حتى لا ننسى المبادرة الإيرانية،
فالكل سيكون، غداً، في دمشق، وإن لم يظهر بشخصه في صورة لقاء الرئيسين،
ومن هنا فلا بد كشرط نجاح أن يتم تعطيل أو شل قدرة إسرائيل على التخريب،
ولا بد أيضاً، وكشرط نجاح، من مساعدة الأخوة الفلسطينيين على الخروج من أتون الحرب الأهلية في لبنان، ليكون نضالهم من أجل قضيتهم أجدى وأفعل وحيث يجب أن يكون، وليتيحوا لأخوتهم اللبنانيين أن يصلوا إلى الحل الوطني المرتجى لمسألتهم فيستعيدوا وحدتهم وبها وحدها يمكنهم أن يعينوهم أعظم العون على ما يدبر لهم كشعب وضد قضيتهم القومية المقدسة.
ولعله من المفيد التذكير إن أعظم المطالب، ذات الأفق الوطني والقومي، هي تلك التي تختزنها هوية لبنان وتجسدها عروبته…
والأسئلة الباقية، معلقة بغير جواب، كثيرة وخطيرة، وأبرزها:
هل يستطيع الرئيس أمين الجميل أن يتجاوز شخصه ليوفر شروط النجاح الأول والحاسم لهذه القمة حتى تكون الأولى فعلاً وليس الأخيرة في عهده.. كما في أي عهد… إن كان ثمة عهود أخرى؟!