بسرعة قياسية تتبدل صورة القمة العربية العتيدة فتبدو وكأنها ستنعقد على حساب الحد الأدنى من التضامن العربي في مواجهة المخاطر المصيرية الداهمة، بدل أن تجيء لتعزيز هذا التضامن وإمكانات الصمود القومي.
فالقمة كما تصور الآن تبدو مطلوبة لذاتها،
ويبدو الإصرار على المكان (والزمان) أهم بكثير من الموضوعات التي يفترض أن تدرج على جدول أعمالها،
وهي بهذا تتحول من أرض لقاء بين العرب جميعاً إلى محطة افتراق، وتتحول من محاولة جادة لتجميع الجهد (القليل) إلى محاولة لإحياء سياسة المحاور المتصارعة داخل العرب،
واستطراداً فإن هذه القمة ستأخذ العرب، متى انعقدت في ظل المناخ السلبي الراهن، بعيداً عن فلسطين (ولبنان) بدل أن تستقدمهم إليها أو تضعهم في اتجاه ما يخدم قضيتها.
أي إنها ستنقل ميدان الحرب من الخارج إلى الداخل،
فالإصرار على بغداد في ظل استمرار حرب النظام العراقي على القيادة السورية وسياستها، ولاسيما في لبنان، يعني استبعاد دمشق أو إبعادها قصداً بخدف عزلها، وغسقاط المحنة اللبنانية من الذاكرة العربية وطي الحديث عن الجهد العربي لتوفير حل قومي للمسألة اللبنانية.
بل إنه يعني، في جملة ما يعنيه، تنظيم “اشتباك” خطير بين اللجنة الثلاثية العربية وبين سوريا، وهو اشتباك سيؤدي بالقطع إلى تدمير آخر فرصة للحل في لبنان وإيذاء العرب جميعاً في سمعتهم وفي تضامنهم وفي أهليتهم وجدارتهم بحل قضاياهم.
وأول ضحية لمثل هذا الاشتباك سيكون اتفاق الطائف… وهو بالكاد قد رأى النور، وقبل أن يتحقق اللبنانيون (والعرب) من كونه صالحاص أو غير صالح كأساس لعلاج الجرح العربي في لبنان.
طبعاً لا تحتاج دمشق إلى من يدافع عنها، فلديها القدرة والكفاءة.
لكن القمة العربية هي التي تحتاج إلى من يحميها كفرصة (متأخرة) لصحوة عربية تواجه الخطر بدل أن تكون مناسبة لمفاقمته وزيادة مصادره.
*وأول ما يجب حماية القمة منه أن تدمغ بالغرض، شخصياً كان أم سياسياً،
*وثاني ما يجب حمايته وضوح الهدف منها، فلا تكون لافتاتها وشعاراتها مناقضة لقراراتها العتيدة، إن كانت لها قرارات.
*وثالث أسباب الحماية أن تكون لها قرارات فعلاً، وأن تكون قراراتها بمستوى المخاطر.
ففي بعض الحالات قد تفيد “تظاهرة” التضامن، خصوصاً إذا كان الغرض منها محدداً ومحدوداً وتأثيرها المحدد والمحدود قابلاً للتوظيف في لحظة سياسية محددة.
لكن المخاطر الراهنة أدهى واقسى من أن تواجه بتظاهرة تضامن مع هذا النظام أو ذاك.
فلا عملية “النقل” المنظم” لليهود السوفيات إلى فلسطين المحتلة بالضغوط والتمويل الأميركي والغربي، يمكن أن تتوقف بفعل تظاهرة تهتف “بالروح بالدم نفديك يا صدام”،
ولا التهديد الإسرائيلي للعراق، المعزز بحملة الكراهية الغربية ضد العرب، يمكن أن يصد بالقول: كلنا صدام!
ولا خطر تفتيت لبنان واندثاره وتشتيت شعبه في أربع رياح الأرض والاخلال بالتوازن الديموغرافي العربي يمكن أن يوقف بإلقاء اللوم على “الأطماع السورية” أو على “همجية اللبنانيين” ولاسيما المسيحيين منهم،
وبطبيعة الحال فإن النظام العراقي هو أكثر العرب معرفة بأسباب الحرب على الشرقية، وهو المصدر الأساسي للسلاح والمال والخبرات لطرفيها (ومعه بهذه النسبة أو تلك بعض قيادة منظمة التحرير و… بعض أجهزة العدو الإسرائيلي).
وإنها لمفارقة ملفتة أن يكون المسؤولون العراقيون معنيين، وسط انشغالهم بالإعداد لقمة صدام، بإتمام المصالحة ولو قسراً بين “حليفيهم” في لبنان: ميشاىل عون وسمير جعجع… وفي الأخبار إن القيادة العراقية وجدت في وقتها متسعاً لثلاثة لقاءات مع موفدي حليفيها (العميد فؤاد عون، مؤلف كتاب “الجيش هو الحل”، الشهير، وبيار رزق مسؤول جهاز المخابرات في “القوات اللبنانية” المعروف باسم “أكرم”…)…
“لم نعطكم السلاح لكي تقتلوا به المسيحيين، بل من أجل أن تحاربوا به السوريين”!!
وبديهي أن يضيف اللائم العراقي: “ومن معهم”!!
إذا كانت هذه من مقدمات القمة فإن نتائجها، لبنانياً، تكون معروفة سلفاً… فالمكتوب يقرأ من عنوانه،
وإذا كانت اللجنة العربية العليا ما تزال مهتمة، حتى اليوم، بالدور الانقاذي القومي المناط بمسير جعجع فلسوف تجد نفسها في “تباين” مع الرؤية العراقية للحل “القومي” في لبنان…
وثمة مفارقة أنصع وأكثر دوياً:
فحسب الأخبار يبدو الرواد من عرب أميركا هم الأكثر حماسة للقمة التي تعقد تحت لافتات “التحدي” للهيمنة الأميركية والغربية عموماً، على القرار العربي،
وحسب الأخبار فإن الأقل حماسة لأية مواجهة مع العدو الإسرائيلي لأسباب موضوعية، يلبسون الآن لبوس الحرب مع الكيان الصهيوني… مع علمهم بأنه لا يتناسب مع “أشكالهم” واحجامهم، فيظهرهم بشكل مضحك بدل أن يقدمهم بصورة فرسان الاقتحام و”قوات الصدام”.
ومن الأسئلة التي تفرض نفسها:
ماذا عدا مما بدا حتى تبدل موقف النظام المصري فتحول من معارض للقمة في بغداد إلى متحفظ فإلى مموافق فإلى داعية يدور “لإقناع” المتحفظين بضرورة أداء هذا الواجب القومي؟!
وماذا استجد حتى تحمست السعودية فجأة لهذه القمة غير مضمونة النجاح، ومملكة الحذر والصمت تفضلها دائماً مضمونة ومأمونة النتائج؟!
لعل بعض الأجوبة المطلوبة متضمنة في حديث وزير خارجية الجزائر، سيد أحمد غزالي إلى “السفير” يوم الجمعة الماضي، والذي قال فيه ما معناه: “إن قمة أهدافها هي تلك المعلنة تعقد بغياب سوريا لا معنى لها”…
والسؤال: من يصر على قمة بلا معنى ولماذا؟!
وهل يمكن أن يتحمس عرب أميركا لقمة عربية بلا معنى… في عين واشنطن على الأقل؟!
مباركة وحدة اليمن
ومبارك جهد صانعيها…
كما السحر، يقترب اليمنيون بخطى حثيثة من لحظة استيلاد “يمنهم السعيد” مرة أخرى.
فالحركة اليومية النشطة لإنجاز أو لاستكمال مستلزمات بعث اليمن، جمهورية عربية موحدة، اختصرت الزمن وجعلت موعد إعلان “دولة الوحدة” قريباً جداً، وأقرب مما كان يتوقع الأكثر تفاؤلاً والأعظم إيماناً بالحتمية التاريخية.
وإنها لدولة ذات شأن هذه التي ستمتد رقعتها بين باب المندب، وبامتداد شاطئ البحر الأحمر وبحر العرب وبعض شواطئ المحيط الهندي، لتنتهي عند حدود ساحل عمان.
وفكرة الوحدة أخطر من دولتها العتيدة.
كذلك فإن الرجال الذين اتخذوا القرار وينفذونه الآن يكتسبون قيمة تاريخية تتجاوز الأحجام التي عرفها عنهم أهلهم في الداخل والعالم البعيد.
والوحدة بمؤسساتها، تماماً، كما إن الدولة برجالها والمؤسسات.
وإنه لشرف لهذه الأمة المتهمة بالتخلف أن يبدو أبناؤها في اليمن، الذين فرض عليهم طويلاً أن يعيشوا في عصور ما قبل التاريخ، وكأنهم أكثر استيعاباً لروح العصر ممن يتشدقون إناء الليل وأطراف النهار بخدمة الحضارة الإنسانية، أو بكونهم مركزاً كونياً – بقوة أموالهم – لتحديد مستقبل العالم… ناهيك بالزجالين “اللبنانيين” مدنيين وعسكريين لا يملون من تذكيرنان بأن التقدم اختراع لبناني مثله مثل الحضارة والاشعاع والعنفوان الذي آخر عناوينه ميشال عون!
مباركة هي الوحدة، حيثما قامت،
ومباركة هي الإرادة التي تقيمها،
ومباركون هم أولئك الذين يضحون بالمناصب الصغيرة والامتيازات الحقيرة من أجل مجد الوطن والأمة، من أجل ما يكبر به الإنسان العربي في كل أرض.
ومباركة “الحكمة اليمانية” التي تعيد استيلاد وطن من ضمير الغيب بينما نحن في لبنان نقتل حلم وطن كان قائماً من لحم ودم، فأهرقنا الدم وجعلنا اللحم طعمة للغربان.
فالحكمة اصطنعت وطنأً قوياً من أشلاء ضعيفة، وجهل التعصب دمر وطناً وحوله إلى أشلاء ونتف لا تعرف لها هوية أو مصيراً.
وهاذا لو سئل دولته
عن أحمد الخطيب؟!
لم يكن الرئيس حسين الحسيني موفقاً في اختيار الكويت محطة لجولته العربية (؟) التي تسبق بأيام موعد الجولة العتيدة للحكم ممثلاً بالرئيسين الياس الهراوي وسليم الحص.
لا هو وفق في اختيار المحطة، ولا في التوقيت خصوصاً.
ومؤكد إن وجود رمز البرلمانية في لبنان (حارس الحريات الديموقراطية) في الكويت هذه الأيام، وبينما سلطاتها تطارد “البرلمانيين” وتمنع لقاءاتهم ولو اتخذت طابعاً اجتماعياً وفي الديوانيات، أمر محرج للطرفين.
ولسنا ندري ماذا سيقول رئيس البرلمان اللبناني في حل البرلمان الكويتي، وفي استبداله بمجلس استشاري بعضه “منتخب” وبعضه “معين” وكله بغير تأثير على القرار وعلى السياسة وعلى ممارسة السلطة في الكويت..
ولا ماذا تراه يقول، إذا ما سئل ولو همساً عن رأيه في اعتقال البرلماني العريق والمناضل القومي البارز الدكتور أحمد الخطيب، وبعض رفاقه، لمجرد مطالبتهم بحماية الدستور وتنفيذ التعهد بحماية الحريات العامة، وإتاحة الفرصة لمناقشة – مجرد مناقشة الحكم – في قراره بحل البرلمان.
إن بعض الحركة يعود بمردود عكسي لما كان يتوقع منها إذا لم يكن التوقيت دقيقاً والغاية واضحة والنتائج المرجوة موضوع تفاهم مسبق أو ممكن الوصول إلى تفاهم حولها بسبب وحدة النظرة والتناول.
ولعل الرئيس الحسيني وغيره من المسؤولين في لبنان يدققون أكثر في اختيار محطات حركتهم، فلا تنتهي الحركة بمردود بائس على المستوى السياسي في حين تصيب بالضرر البالغ سمعة القائمين بها… فالناس، هذه الأيام، حساسون جداً تجاه مسائل الانفاق والكلمة، ولعلهم أقسى مما كانوا في أي يوم في مقارنتهم الأكلاف بالحصيلة… متى كان هناك حصيلة.