طلال سلمان

على الطريق القيد الذي كسره الخليجيون!

دفع العرب ثروة حاضرهم وبعض المستقبل سداداً لفاتورة حرب الخليج، التي بدأت بمغامرة رعناء لحاكم مهووس وانتهت بهزيمة قومية نكراء لمجموع الأمة، إذ ليس على قائمة المنتصرين إلا اسم الأميركي وحليفه الاستراتيجي في هذه المنطقة تحديداً: الإسرائيلي.
على إن أقل الأضرار قيمة هي تلك المليارات التي دفعها وسيدفعها النفطيون العرب (وبينهم العراق) لمن اتخذ قرار الحرب وقادها وانتصر فيها (عليهم!!)…
فمع كل شمس جديدة تتمظهر بعض التداعيات الإضافية لنتائج الحرب كاشفة كم خسر العرب من مكانتهم ومن دورهم ومن رصيدهم المعنوي وبكلمة: من احترام العالم لهم، وهو قد تناقص إلى حد الانعدام لدى “حليفهم” السيد المطلق العظيم: الولايات المتحدة الأميركية، ومعها دائماً “عدوهم” التاريخي متمثلاً في الكيان الصهيوني.
ولعل أهم ما في الدور النشط الذي تلعبه الآن سوريا، عبر الحوار المفتوح والمتوتر مع الإدارة الأميركية، إنه يجسد المحاولة الجادة اليتيمة لحصر الأضرار الكارثية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مرحلة ما قبل غزو الكويت.
لكن هذه المحاولة، على حيويتها، لا تستطيع منع توالي الانهيارات في الوضع العربي المتردي، والذي بلغ منعطفاً خطراً الآن بإعلان مجلس التعاون الخليجي عن استعداد دوله للمشاركة في “المؤتمر الإقليمي” المطروح للتداول، وبصفة “مراقب” فقط وليس بصفة طرف وشريك!
ومنطقي أن يعبر وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر عن اغتباطه الشديد بهذه النتيجة فيقول: “إنها بالطبع خطوة إلى الأمان… إنها تكسر قيداً رئيسياً كان قائماً حتى الآن”.
والكلام واضح: إنها خطوة في اتجاه الصلح بين العرب وإسرائيل، وهي تسقط واحدة من المحرمات التي كان يلتزم بها النظام العربي (في العلن على الأقل) إلى ما قبل مغامرة صدام حسين في بداية آب من العام الماضي.
ولنسترجع معاً سيناريو التراجعات الذي أوصل إلى هذه الانتكاسة السياسية المجسدة لبعض تداعيات الهزيمة:
1 – عندما بدأ بيكر أول جولة له في المنطقة بعد حرب الخليج، حمل معه اقتراح “المؤتمر الإقليمي” لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، بمعزل عن الوضع في الخليج.
ولقد ردت إسرائيل يومها طالبة انتهاز فرصة الهزيمة العربية الشاملة لتحقيق “الصلح” بينها وبين الدول العربية، انطلاقاً من “التقارب” الذي فرضته أو “شرعنته” الحرب، ودعت إلى إشراك دول الخليج في المؤتمر الإقليمي العتيد.
كان الهدف الإسرائيلي نسف الفكرة من أساسها، فإسرائيل أقوى من أن تقبل “تسوية” الآن، والعرب أضعف من أن يرفضوها، ولو أملت عليهم تنازلات أقسى..
2 – اقترحت إسرائيل، بالمقابل، إشراك السعودية والكويت (تحديداً) في المؤتمر الإقليمي، ونقل هذا الاقتراح إلى المعنيين بواسطة بيكر، فكان الرد متحفظاً لأن مسؤولي البلدين خافوا من “التورط” في رعاية التسوية ومن ثم تمويلها!
3 – على الأثر تحرك اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، ووجه 64 عضواً في مجلس الشيوخ رسالة إلى فهد ينتقدون فيها تنصل السعودية من المشاركة في التسوية، فردت المملكة ذات السيف على عملها ببيانرسمي يؤكد على تأييد الجهود الأميركية للتسوية… واشتد الضغط فانتهى الأمر إلى الاستجابة الكاملة، وهو ما جرى التعبير عنه في بيان أمس الأول الذي حمله بيكر قبل أن يستقل الطائرة إلى دمشق، وفيه أن دول مجلس التعاون الخليجي (وليس السعودية وحدها) مستعدة للمشاركة (في المؤتمر) من خلال الأمين العام للمجلس الكويتي عبد الله بشارة، إذا ما دعي للحضور، مع التعهد بأن تشارك دول المجلس في أية لجان قد تشكل في ما بعد انعقاد المؤتمر الإقليمي لبحث “الشروط” الأميركية – الإسرائيلية المحددة وهي: الحد من التسلح، المياه، البيئة، والتعاون الاقتصادي؟
4 – ولقد كانت مصر وسوريا، ومنذ البداية، ضد الطلب الإسرائيلي بإشراك مجلس التعاون، لأنهما كانتا تعرفان إنه نسف لجهود التسوية أو بالأحرى لحرفها عن مسارها الأصلي، لذلك فإن المفاجأة الخليجية التي أبلغها بندر بن سلطان إلى جيمس بيكر، قبيل إقلاع طائرته، تعطي إسرائيل مكسباً مجانياً لم ترحب به تل أبيب بحرارة لأنها تريد أن يشارك الخليجيون فعلياً منذ البداية وليس بصفة مراقبين.
5 – الورقة الخليجية التي يحملها بيكر الآن إلى إسرائيل، في جولته الرابعة بالمنطقة، هي الورقة الثانية من نوعها… إذ كانت الأولى في الإيحاء الخليجي بإمكان إلغاء المقاطعة لإسرائيل، مقابل وقف الاستيطان… لكن إسرائيل ردت بزيادة الاستيطان فرد العرب، في اجتماعات مكتب المقاطعة بدمشق الأسبوع الماضي بإضافة 120 شركة جديدة إلى لائحة الحظر…
ولكن من تراه ينفذ؟!
باسم فلسطين فتح صدام حسين الباب للخروج من فلسطين، ومن الصراع العربي – الإسرائيلي،
وهو لم يفتحه لنفسه فقط بل أساساً لخصومه الذين غزاهم تحت لافتة فلسطين، وعلى نغمات حداء ياسر عرفات والقيادات الأكثر راديكالية منه،
و”الفلسطيني” هو الأكثر تضرراً بين العرب من أية هزيمة قومية، حتى لو لم يشارك في “الحرب” المفضية إليها، فكيف إذا كانت قيادته قد ارتكبت جرم الرهان على الجهة الخطأ والشعار الخطأ والزمان الخطأ وفي المكان الخطأ؟!
على إن الأمر أخطر من أن يحصر بالفلسطيني،
فمن يسائر “الخليجيين”، وهذا التعبير الجغرافي بات له الآن مضمون سياسي، فالخليجية “قومية” أو تكاد.
وفي حين “أسعدتهم” المصادفة بأن الحرب قد أتاحت لهم الخروج نهائياً من ساحة العمل من أجل فلسطين، ولو على بعض أرضها “الأصلية”، فها هم الآن يدخلون إلى الصلح مع إسرائيل، ومن أوسع أبوابه،
كانوا يستنكفون عن المشاركة في التحرير، بحجة إن الجغرافيا تفصلهم عن فلسطين والكيان الصهيوني فوق أرضها،
ولكنهم الآن يدخلون إلى الصلح، من باب السياسة، لحماية مصالحهم و”تحالفهم” المتجدد مع الولايات المتحدة المتحالفة مع إسرائيل!
وهم يستخدمون كقوة ضغط إضافية “أميركية طبعاً” على الموقف العربي العام، وعلى الانتفاضة المجيدة في فلسطين خاصة، بل على مجمل النضال القومي في فلسطين بأشكاله كافة.
لقد أخرج العرب من الحرب التي خيضت باسمهم وعلى أرضهم (وبدمائهم).
وها هم يخرجون الآن من فلسطين، فيدفعون إلى الصلح على حسابها (والأدهى: باسمها)!!
وإذا كانت القيادة الفلسطينية قد ارتكبت خطأ في الحساب أو في المناورة، فها هم الخليجيون يرتكبون الخطيئة،
لقد دفعوها إلى الخطأ فزينوا لها وجاهة الادعاء بالقرار الوطني المستقل،
وها هم، في ظل عجزهم عن ممارسة أي قرار مستقل، يتركون لإسرائيل، أن تمارس “قرارها الوطني المستقل” حتى عن الأميركيين، على حسابهم هم في كل أرضهم.
إن خطة خبيثة تنفذ الآن أمام عيون العرب جميعاً وهي تقضي بالفصل الكامل بين قضية فلسطين وبين متعلقات الصراع العربي – الإسرائيلي… فالعرب خارج فلسطين دول “ذات سيادة”، ولها حق التصرف، حتى بموضوع الصراع مع العدو القومي،
أما الفلسطيني فله أن يمارس استقلاله في “دولته” المعلقة في الهواء كما يطيب له!
المهم إن “قضيته” لا تعنيهم، ولا شأن له بصلحهم، إن صالحوا، كما لم يكن له شأن بحربهم يوم حاربوا.
وهكذا تتحقق الخسارة مرتين،
أما الإسرائيلي فإنه يكاد لا يستوعب “جوائز” حرب الخليج… في المال كما في السياسة، والأهم في الاستراتيجية التي تعطي العنوان للنظام العالمي الجديد الذي يبشرنا به جورج بوش، شفاه الله.

Exit mobile version