طلال سلمان

على الطريق القاهرة باريس وبالعكس

من بين العلامات البارزة على ضياع السياسات العربية الرسمية وخوائها، هذا اللجوء الدائم إلى الأحكام المطلقة، والانتقال المباغت والمفاجئ وغير المنطقي من النقيض إلى النقيض.
والأمثلة أكثر من أن تعد أو أن تحصى:
فبين ليلة وضحاها “قفزت” الولايات المتحدة الأميركية من موقع أعداء العرب إلى رأس قائمة أصدقائهم المقربين! وتحول الاتحاد السوفياتي من “الحليف الاستراتيجي” إلى رفيق طريق مشكوك بإخلاصه وصدق نياته وحتى بفعالية أسلحته وكفاءتها القتالية!
وبسحر ساحر، اختفت صورة ألمانيا الغربية الدولة المعادية باعتبارها أحد أهم مصادر الدعم لإسرائيل بالمال والسلاح والتعويضات التي لا تنتهي، لتحل محلها صورة زاهية للأصدقاء في بون ومواقفهم الثابتة في تأييد القضية العربية وحقوق الشعب الفلسطيني!
ومثل ألمانيا الغربية هولندا وبلجيكا وغيرها من مستعمرات أميركا الأوروبية التي تكن للعرب حقداً تاريخياً أعمى بعضه يتصل بالحروب الصليبية وبعضه الآخر بمصالح التروستات الاحتكارية التي نهبت طويلاً خيرات الأرض العربية (والعالم الثالث كله) ثم حد من نهبها وكاد ينهيه تعاظم حركة الثورة العربية وحركات التحرر الشقيقة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
وفي نموذج فرنسا، والتعامل معها، بدأ الضياع والخواء وحتى الهوان واضحاً إلى درجة الاستفزاز.
في البدء، أيام جمال عبد الناصر وشارل ديغول، تطوع المتطوعون لتصوير هذا التعامل على أنه ركض وراء سراب، واستفزاز غير مبرر للسياسة الأميركية، ومجافاة للمشاعر القومية التي لم تنس بعد فرنسا المستعمرة، مرتكبة الجرائم الوحشية في الجزائر والمغرب العربي، شريكة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر الخ!
أما اليوم، ولمناسبة زيارة الرئيس السادات، فإن الأمر يصور – قسراً – وكأنه النصر الذي ما بعده نصر حتى ليهون أمامه “القبور” العظيم!
لقد ذهب الرئيس أنور السادات إلى باريس، والتقى فيها الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان. وهذا أمر طيب، وحدث بارز يستحق صدر الصفحات الأولى ونشرات الأخبار في الإذاعات العالمية.
وأمر طيب أن نطالب بإشراك فرنسا في مؤتمر جنيف الخرافي، وأن نزيد من تعاملنا معها في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية.
وأمر طيب أن تتبنى فرنسا، باسم أوروبا، مطلب شعب فلسطين المشروع “في أن يكون له وطن”، حتى وهي تؤكد “حق جميع دول المنطقة، وإسرائيل بالتحديد، في البقاء والحياة والحدود الآمنة”.
لكن هذا كله شيء وتصوير فرنسا نفسها، ومعها نتائج زيارة السادات، على غير حقيقتها شيء آخر.
فليست فرنسا الحالية تلك “الفرنسا” التي كان يبشر ويعمل لها ديغول، فيلقى في عمله تأييداً ودعماً من حركة الثورة العربية ومن قيادتها في مصر، لوعيها الكامل بأهمية أن تمارس فرنسا سياسة استقلالية عن الولايات المتحدة، وأن تخرج معها أوروبا من فلك التبعية لأميركا سياسياً واقتصادياً، وأن تسهم في خلخلة الحلف الأطلسي الذي لعب وما يزال يلعب دوراً إرهابياً خطيراً ضد حركة التحرر العربية، كما ضد نزعة التحرر في أوروبا الغربية ذاتها.
لقد مات الحلم الديغولي الطموح بموت صاحبه، وشيع إلى مثواه الأخير عند تشييع جثمان خليفته جورج بومبيدو. وكان انتخاب ديستان، في الظروف الشهيرة، التي رافقته، إشارة واضحة إلى “ردة” باتجاه واشنطن، أخذت تتأكد تدريجياً، ومع كل شمس جديدة يتوافر عليها دليل عملي جديد.
فرنسا الحالية هي التي يضرب فيها العرب ويشتمون ويهانون كل يوم. وحملة الكراهية تتصاعد فيها، وقد استمرت في تصاعدها خلال وجود الرئيس السادات في باريس، بل إنها قد مسته شخصياً. وإلا فما معنى عنوان ضخم يتصدر الصفحة الأولى لإحدى أكبر الصحف الفرنسية وهو يصف لقاء الرئيسين المصري والفرنسي بأنه لقاء بين “جيسكار وكليوبترا”؟!
ثم إن المؤسسات التي أتيح لنا أخيراً أن نلج أبوابها هي مؤسسات ذات تاريخ عريق في دعم إسرائيل وضمان تفوقها على العرب. وفرق كبير بين أن ننتصر بديغول ومعه عليها، فنشتري منه بعض ما تصنعه من سلاح، أو نتعامل معها مباشرة متغاضين عن علاقتها الحميمة بإسرائيل والصهيونية والاحتكارات الأميركية. ففي الحالة الأولى يكون التعامل مع موقف سياسي إيجابي لدولة تحاول بهذا الموقف تأكيد استقلاليتها من جهة، وسيادتها من جهة أخرى، ورغبتها في تعاون يخدم مصالح الطرفين من جهة ثالثة. أما في الحالة الثانية فيكون التعامل مع مؤسسات خاصة، موصومة بعلاقة ثابتة مع إسرائيل، وتكون الدولة الفرنسية طرفاً ثالثاً أو وسيطاً في أحسن الحالات.
في الحالة الأولى يوظف جهدنا (ومالنا) في محاولة إبعاد فرنسا أكثر فأكثر عن أميركا، وتأكيد سلامة هذا التوجه،
وفي الحالة الثانية يوظف الجهد والمال في خدمة المؤسسات الخاصة المعنية، وبعض كبار مالكيها من اليهود كما هو معروف، دون أن نطلب أو ننتظر مردوداً سياسياً، بل إننا – عملياً – نحن من يدفع، أيضاً، الثمن السياسي.
فليست المسألة في أن نتمكن من شراء الميراج. لقد اشترينا الميراج، من قبل، واستخدمتها مصر ذاتها في حرب أكتوبر المجيدة. لكن الشروط السياسية للصفقة الليبية – الفرنسية هي التي جعلت الشراء ممكناً، وحتى استخدام الطائرات ضد إسرائيل ممكناً، على الرغم من شروط عقد البيع الشكلية.
المسألة في أين تقف فرنسا، وأين نقف نحن منها.
ومع تسليمنا بضرورة أن تكون علاقاتنا متوازنة مع مختلف دول العالم، ومع عدم الاعتراض على توثيق العلاقات مع فرنسا ديستان ذاتها، فإن نتائج زيارة الرئيس السادات لفرنسا متواضعة جداً.
فعندما تصور فرنسا وكأنها البديل “الصديق” للاتحاد السوفياتي كمصدرأساسي لسلاح العرب، يكون هذا شيئاً بين التضليل والتهريج.
أما حين يصور “داسو” وكأنه “ديغول” أو “ديغولي” صميم، فإن الأمر يتعدى التهريج إلى العمى السياسي، إذا لم نقل شيئاً آخر.
وفي التحليل الأخير فإن حكم فرنسا الحالي “ديغولي” بمقدار ما هو حكم مصر الحالي “ناصري”،
وتظل النتائج محكومة بهذا الاعتبار، مهما قالت صحف القاهرة في الذين لا يشاركونها عماها السياسي المستفز.

Exit mobile version