لم يكن ناظم القادري في حياته رجلاً خطيراً، لكن اغتياله أمر خطير، فالجريمة تمس الناس جميعاً، والرصاص الذي أرداه أصاب معه مجموعة من القيم الغالية على قلوب محبيه ومعارضيه معاً.
ولم يكن ناظم القداري في حياته، رجل قضية، لكن اغتياله قضية قائمة في ذاتها، لا يجوز السكوت عنها، أو التقصير في حق مرتكبيها وكشفهم.
ثم إن الاغتيال، في توقيته، يكتسب خطورة استثنائية، إذ يبدو وكأنه موجه ضد القمة العربية وقراراتها، وضد اللجنة الثلاثية العريبة، وضد مشروع الحل العربي للأزمة اللبنانية ، إضافة إلى إنه موجه إلى المؤسسة الديموقراطية الأولى، من حيث المبدأ، أي مجلس النواب، عبر واحد من الرموز النيابية منذ حوالي أربعين سنة بلا انقطاع.
ولا مرة كان مجلس النواب مستهدفاً، ومزعجاً، ومطلوبة إزاحته، كما غدا بعد قرارات قمة الدار البيضاء الاستثنائية.
لذلك اعتمد كنقطة ارتكاز ضرورية للعودة بالدولة إلى صورتها الأولية، عبر إحياء مؤسساتها بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية، على قاعدة إصلاح سياسي، ولو بحده الأدنى.
وحده المجلس، مع كل التحفظات، يعيش بالتقسيط فيحقن نفسه “باكسير الحياة” سنة بعد سنة، حتى يمكنه توفير المخرج الشرعي من المأزق، الذي فرضه الجنرال على البلاد والعبادز
أليس هو المصدر للشرعية و(الشرعيين) جميعاً من أمين الجميل إلى ميشال عون؟!
ورغم إن الجنرال قد استغنى عن الناس، وقرر أن يواجه العالم، وحيداً بأسره ، فإن أخشى ما يخشاه بعد، هو المجلس النيابي.
خشي منه فعطل انعقاده في 18 آب من العام الماضي، خوفاً من أن ينتخب المرشح الوحيد (يومذاك) الرئيس سليمان فرنجية.
وخشي منه أكثر، في ما بعد، فعطل انعقاده في 22 أيلول 1988، خوفاً من نجاح مرشح التوافق الأميركي – السوري النائب مخايل الضاهر.
ويروي أحد المستشارين السابقين للجنرال، وهم قلة قليلة، والاستماع إليهم أقل، إنه نصحه في 18 آب 1988، بأن يسمح لبعض نواب “الشرقية” بالوصول إلى المجلس في قصر منصور، مؤكداً له إن لا خطر على الاطلاق “فالمنطقة في يدك” والنصاب لن يكتمل، والانتخاب بالتالي لن يتم، ، وإنه يستطيع الاطمئنان إلى أن حظه في الوصول لن ينقص، بل لعله سوف يزيد، نتيجة تصرف “الفارس” وتسليف الرئيس فرنجية ومن معه…
لكن عون لم يقبل، حتى بالسماح للضاهر نفسه (وهو منافس فرنجية نفسه) بأن يبلغ قصر منصور، بل بعث من اقتاده خارج بيروت الكبرى!
فالجنرال المستعد للمقامرة بمصير البلاد، كان يفضل تجنب أية مخاطرة بترك النواب يصلون إلى حيث يجتمعون، وربما يقررون من يكون رئيس البلاد الجديد.
كان الجنرال واثقاً من أن النواب لن يختاروه، وهكذا رأيناه يستخدم عسكره لأول مرة من أجل منع أبسط الشكليات الديموقراطية “المنمقة” والممنوعة من الإنجاز.
ولقد تفاقمت الأزمة، من بعد، “بين الجنرال الديموقراطي والشرعي حتى العظم، وبين مجلس النواب، المنتحل صفة الشرعية وحراسة الديموقراطية وحماية الدستور بتطبيقه”.
وعبر الجنرال عن رأيه بالنواب، “ديموقراطياً”، فبعث من يضرب بعضهم، ويهدد بعضهم الآخر، نسف سياراتهم، ودرز بيوتهم بالرصاص وشهر يهم بوصفهم عملاء وجبناء وخونة يستحقون الإعدام.
وبين 14 آذار، بداية حرب الجنرال التحريريةن وبين اليوم، لم تتوقف حملات العماد ميشال عون على النواب، مواجهة واستغابة، مباشرة ومداورة بالجملة والمفرق.
… إلى أن جاءت ثالثة الانافي مع قدوم الأخضر الإبراهيمي مجدداً لوقف إطلاق النار ورفع الحصار، ودعوة النواب في تاريخ محدد ومعلن، إلى الاجتماع خارج لبنان، لمباشرة الحوار في الملف السياسي للأزمة اللبنانية تحت عنوان إصلاح النظام.
مقلقة هي فكرة العودة إلى النواب ومجلسهم وشرعيتهم.
ذلك هو الكابوس الذي يقض مضاجع الجنرال، في الطابق الثالث، تحت الأرض، في القصر الجمهوري في بعبداز
لا مجال للمخاطرة، ولا داعي لها، وليست فتوى أن يقول قائل لا أدري، فالجنرال يدري.
إنها المؤامرة!
عدنا إلى اعتماد نغمة مجلس النواب كممثل شرعي وحيد؟!
أين شرعيته هو؟! إن حضور الأصيل يجب الوكيل، على فرض إنه الوكيل،
ثم إن الدعوة تشمل الجميع، وتؤمن مجد هذا الجنرال في منع حصوله، أي التئام شمل المجلس بنوابه جميعاً، الممثلين لمختلف الطوائف والمناطق والاتجاهات، والميالين بأكثريتهم الساحقة إلى الاعتدال، واعتماد لغة الحوار بدل حرب التحرير البائسة.
وأخيراً فإن اللقاء سيتم، لم تم، في مكان لا تطاله مدافع العماد، ولا يصله زبانيته، وسيتعذر عليه بالتالي استخدام عملاء الشعبة الثانية في مهمات “النصح” و”الترشيد” و”إيقاظ الوعي”، كما فعل مع النواب والبطريرك الماروني، عندما بدرت عنهم نغمة التململ.
ما الحل؟!
كيف السبيل إلى نسف الاجتماع النيابي العتيد، وإجهاض احتمال فتح باب الحوار في الشأن السياسي، مع تحاشي انفضاح الدور، كمعطل ومتسبب في إدامة الحرب، لأنها طريقه وأداته ووسيلته الوحيدة إلى السلطة، وإلى الاستمرار في التربع على عرش القيادة؟!
هذا أكثر ما يشغل بال الجنرال، ويجعله يناضل بإعلان قبول قرار اللجنة الثلاثية العربية بوقف النار وفك الحصار وفتح المعابر، أمام عودة البلاد إلى الأمن والأمان.
… وبينما هو يفتش عن المخارج والحيل الشرعية، في التملص من إعلان قبول واضح، والهرب من إعلان رفض صريح ومكلف، جاءته المقادير و”التقارير” بما يطمئنه نسبياً، إلى أن النواب سيعدون إلى العشرة، قبل أن يقبلوا الدعوة للقاء والحوار وانتخاب رئيس غيره، وإقرار الاصلاح والعياذ بالله!
كان ناظم القادري ، رحمة الله عليه، معتدلاً، لكن الذي قتله متطرف ويريد للتطرف أن يسود حتى يتعذر الحل نهائياً، وكان ناظم القادري من أهل النظام القديم، لكن الذي قتله ليس من أهل النظام الجديد (؟) بل هو ضد النظام، أي نظام، وضد الدولة، أية دولة، وضد لبنان، وضد العرب في داخل قمتهم، مجتمعين في قمتهم أو متفرقين.
حمى الله لبنان.