… وسنبقى في الضاحية، وسنبقيها عروساً سمراء كالقمح، ندية كوجه مولودك البكر حين يصحو من نومه صباحاً قوية وثابتة كسنديانة جذعها في الأرض وفروعها في السماء. ونقية كالإمام الأوزاعي.
لن نهجرها مهما اشتد القصف ومهما اختلست المدافع من أعمارنا والطموحات ودمرت قدرات وبددت موارد ومهما تصيد “القناصون” من طيور الحب التي تعطي لحياتنا في الضاحية ومدينتها طعم الفرح وحيوية الشباب المعطرة جباههم بقطر الندى بعد تعب النهارات الطويلة.
سنبقى في الضاحية ناطورة البحر، بوابة الجبل، زهرة البرتقال الجنوبي، نوارة البقاع المطعمة بنفحة طيب شمالية.
سنبقى في الضاحية وستبقى الضاحية: أقوى من نيوجرسي بكل المدافع والصواريخ الخارقة القوة، فالأرض هي الأعظم والأبقى، وإنسانها مصدر العظمة وسمة الخلود.
“ربع الوطن”؟! أكثر بكثير: هي الآن الوطن كله. حتى وحيطانها مهشمة حتى وشبابيكها فجوات عبرت منها رسائل الموت الودية… وسيبقى عند النسوة بعض الوقت للاهتمام بأصص الزهور فوق الشرفات المهجورة، وسيظل أمام الرجال فرصة لقراءة الشعر، وسيظل ثمة من يهدر صوته الأجش بالعتابا والشروقي. كأنما ليؤكد تواصله مع فيلمون وهبي المهجر من كفرشيما.
ستبقى الضاحية عروة وثقى تشدنا بعضاً إلى البعض الآخر، أليست حبة العقد بين أهلنا جميعاً في الجهات الأربع؟!
ستبقى ؟! بل هي ستمد ظلها جنوباً، شمالاً ، شرقاً لتصبح خيمة يأوي إليها كل مناضل من أجل حقه بوطن وحقه فيه،
جبهة بيروت المرفوعة ستكون، تسورها بضفائر الصبايا وسواعد فتيانها لتبقى العاصمة والمركز والمنارة الهادية في قلب هذا الشرق.
أما نيوجرسي فستظل “بطة” محشوة بالبارود، قد تهدم بيتاً أو حياً، ولكنها لا تستطيع أن تكون أرضاً كما لا تستطيع أن تلغي وطناً وعلى الأخص لا تستطيع أن تلغي شعباً بين طلائعه أولئك المقاتلون في الجنوب وهؤلاء الصامدون في بيروت وضاحيتها الضحية.
وأما المدافع فقريب هو اليوم الذي سيتولى إخراسها المكلفون بإطلاق قذائفها المجنونة.