أمس، ومن خلال احتفال الكتائب بعيد تأسيسها السادس والخمسين، تبدت بجلاء صورة الوضع المأساوي الذي يعيشه العمل الحزبي في لبنان ما بعد الحرب الأهلية.
وإذا كان من حق الكتائب علينا أن نسجل لها الشجاعة في محاولة طرح المسألة ورفع شعار التغيير والتوجه إلى الشباب، فإن هذه المحاولة تجيء ملتبسة نتيجة للعلاقة الملتبسة أصلاً بين الحكم والكتائب، والأخطر بين الكتائب والنظام اللبناني الذي غالباً ما يوصف بـ “الفريد”.
قبل الكتائب، وبلغة أوضح وأدق، طرح الحزب الشيوعي اللبناني أزمته وهي تمثل أرقى تجليات الوضع المأساوي للعمل الحزبي في حاضره ومن ثم في مستقبله.
من الشيوعي إلى الكتائب، وعلى اتساع المسافة بينهما، تطل الأزمة حادة وتفرض نفسها على المهتمين بمستقبل العمل السياسي، والصراع الديموقراطي إجمالاً واستطراداً مستقبل النظام السياسي ، الجمهوري الديموقراطي البرلماني في لبنان.
ولسي إلا حيث تغيب أو تبهت تقاليد العمل الحزبي، أو حيث تغلب على التنظيم مواصفات تجعله أقرب إلى الرابطة العائلية أو الجمعية الخاصة ذات العضوية العامة، أو التركيبة العشائرية أو “البرواز” المذهب لصورة الزعيم القائد الفرد الصمد، تتخذ الأزمة شكلاً كاريكاتورياً: إذ كيف تكون أزمة ولا حزب؟!
على هامش هذه الحقيقة يمكن تسجيل بعض الملاحظات السياسية وأهمها:
1 – إن النظام الذي لم تكن بين ركائزه الأحزاب يستطيع أن يعيش من دون أحزاب سياسية، فغيابها لم يؤثر كثيراً لا في طبيعته ولا في توجهاته ولا في صورته العامة.
فالأحزاب، بالنسبة للنظام، كانت “منتجات فولكلورية”، وكان يحرص عليها حرصه على التبولة والكبة النية وتزكة العرق والدبكة ومواويل وديع الصافي.
كانت الأحزاب العقائدية دائماً خارج النظام، أو بتعبير أدق: خارج أداته السياسية المباشرة، الحكم.
والاستثناءات محدودة ومحكومة بمنطق طائفي أو بضرورات اللعبة السياسية.
2 – لأن دور الأحزاب العقائدية قد تضاءل دخلت اللعبة بشروط النظام، ولأنها باتت قريبة جداً من “التراث الفولوكلوري”، فقد اتسعت عباءة الحكم لتضم بين صفوفها المنتسبين الجدد إلى النظام من البعثيين والقوميين السوريين وصولاً إلى “حزب الله”، جنباً إلى جنب مع النظاميين القدامى (حتى من موقع المعارضة) كالكتائبيين والتقدميين الاشتراكيين (أو الجنبلاطنيين، كما كانوا يسمون) و”الأحرار” (أو الشمعونيين في التسمية الرائجة) وانتهاء بمحازبي حركة “أمل” وحزب “الوعد” و”القوات اللبنانية” وسائر المتحدرين من أصول كتائبية”.
3 – إن لا خطر على النظام في لبنان إلا من أهل النظام نفسه، فالعمل الحزبي، بأشكاله كافة، كان شهادة للنظام ولم يكن أبداً عبئاً عليه.
وتطوير النظام لا يشكل مطلقاً خطراً على الكيان.
بل إن التطوير، على الأقل بالكيفية التي مارسها الحكم في لبنان على اختلاف العهود، كان يجمل الكيان ويعطيه مزيداً من المسوغات والمبررات الواقعية.
فإذا كان غير مسموح، وغير مطلوب، وغير مفيد، المس بالكيان فلا أقل من أن يطور النظام نفسه ليخفف من واجهته، ومن سمعته ومن سلوكيته الطائفية المعترض عليها والتي كانت – في يوم – مصدر تهديد لاستمراريته كما للكيان ذاته،
وباختصار : فكلما قلت الطائفية في مؤسسات النظام وخف ثقلها على بنيته، زادت منعة الكيان واكتسب المزيد من المشروعية، محلياً وعربياً ودولياً.
وبديهي إن الاعتراضات الخارجية، مهما بلغ عنفها، لا تؤثر على الكيان ولا تهزه، طالما لم يكن لها متكأ في الاعتراض الداخلي، وسواء أكان مصدر الاعتراض وطنياً عاماً أم طائفياً أم حتى مذهبياً.
والتسليم بالكيان لا يستتبع بالضرورة تسليماً بتشوهات النظام،
وبديهي أيضاً، ومع استشراء الضعف في البنية الحزبية، أن يلعب المجلس النيابي كمؤسسة يتلاقى فيها “قدامى المحاربين” من الحزبيين (المتقاعدين؟) دور المنشط للحياة السياسية بأمل تطوير النظام.. وحماية الكيان من خطر أهل النظام أولاً وأخيراً.