بين أسباب العزاء في ما حصل خلال الأيام الأربعة الماضية، إن الدماء التي أريقت في شواريع بيروت وضواحيها لم تذهب هدراً، فالمحصلة النهائية إيجابية بالنسبة للبنان – الوطن ولفلسطين المقاومة ومشروع الوطن والقضية.
وهذا ما يهم، وأكثر بكثير من تحديد أو حصر خسارة الكتائب.
فما خسرته الكتائب لم يجير لحساب طرف آخر مماثل، أو بديل مشابه لها فكرياً وسياسياً وعملياً، بل جير أصلاً لحساب حركة التقدم في لبنان، ولحساب عروبة لبنان… إضافة إلى ما يشكله من زيادة في رصيد حركة المقاومة الفلسطينية.
ولنحدد هذه المكاسب الوطنية التي يفضل البعض أن يحصيها كخسائر كتائبية:
لقد تم “تحجيم” الكتائب، سياسياً بالدرجة الأولى، ثم عسكرياً. فإذا الكتائب حزب مسيحي وليست المسيحيين، وإذا هي مجرد تيار من طبيعة انعزالية يمينية متخلفة عن النظام اللبناني نفسه.
فليس بالمصادفات إن الزعامات والقيادات والمؤسسات المسيحية الأخرى (والمارونية تحديداً) قد نأت بنفسها عن المعركة وتركت الكتائب وحيدة في الساحة تستنجد ولا من يغيث.
وليس بالمصادفات إن الدولة قد اكتفت بدور الحكم، بل ودللت بالمواقف العملية على شجبها لممارسات الكتائب من خلال تأكيد رفضها لمبدأ الصدام مع المقاومة الفلسطينية، ورفضها لاعتبار نفسها – كسلطة – طرفاً أو صاحب مسؤولية خاصة في هذا النطاق، فيما عدا المسؤولية الدستورية والقانونية.
كانت الكتائب حزب السلطة. لكنها اليوم ليست كذلك. وفي بعض اللحظات بدأ التعارض واسعاً بين السلطة وحزبها المزعوم الذي انقلب إلى عبء ثقيل عليها.
وكانت الكتائب حزب المسيحيين وحزب الكيان وحزب النظام اللبناني. لكنها بعد اليوم ستكون مجرد مؤسسة من طبيعة سياسية عفا عليها الزمان، ومن طبيعة طبقية معادية لطموحات ومصالح الغالبية الساحقة من المواطنين في لبنان.
وكانت الكتائب “الذراع الحديدي” للمصالح الطبقية والاتجاهات السياسية التي تعبر عنها. لكنها بعد اليوم ستكون مجرد تنظيم مسلح المرفوض منطقه السياسي حتى من الوسط الذي يفترض إنه يمثله. فحتى أكثر اللبنانيين انعزالية بات قابلاً الآن لقدر من العروبة و”الفلسطينية” يضيق به الثوب الكتائبي.
إن الأقل عروبة، أو تحسساً بعروبته بين العرب، وجد نفسه محرجاً إلى أقصى حد إزاء ما حصل في لبنان، واضطر إلى تبرئة نفسه من شبهة التحالف مع حزب كالكتائب.
بالمنطق الوطني هذه مكاسب للحركة الوطنية في لبنان، أولاً وقبل أن تكون خسائر كتائبية.
وبفعل ممارسات الكتائب، ونمط تفكيرها المغرق من يمينيته إلى حد التخلف، فإن ولادة لبنان الوطن تستتبع بالضرورة انهيار هذه المنظمة التي عجزت عن تطوير نفسها، بل وقمعت كل محاولات التطوير التي جرت في داخلها.
أما مكاسب حركة المقاومة الفلسطينية فيمكن تلخيصها في هذه اللحمة التي تتأكد وتتوطد أكثر فأكثر بينها وبين الحركة الوطنية في لبنان، وفي اندحار النظريات التي صورتها على الدوام مصدر خطر على لبنان وعامل تفرقة فيه.
لقد تصرفت المقاومة بطريقة منعت اندلاع نار الفتنة الطائفية في لبنان، فقدمت للبنان – الوطن خدمة عظيمة،
وتصرفت بوعي عال منع تحول الأمر إلى اقتتال لبناني – فلسطيني ، وهذه أيضاً خدمة عظيمة للبنان – الوطن.
وهكذا تتأكد العلاقة الجدلية القائمة بين المقاومة والحركة الوطنية: فعندما ينزل لبنان بأحزابه وقواه الوطنية والتقدمية إلى الشارع ليحمي بصدره وبدمائه المقاومة الفلسطينية، فإنه بذلك يعمق فكرة لبنان الوطن ويدعم الأسس الصالحة لقيام بنائه الشامخ العتيد.
وهؤلاء جميعاً لم ينزلوا لمواجهة الكتائب ولضربها، إنما نزلوا أصلاً من أجل لبنان: لبنان الوطن بالطموح، لبنان الفلسطيني بالضرورة، ولبنان العربي بالواقع وبالانتماء، بالماضي والحاضر وخاصة المستقبل.