لم يحدث في التاريخ إن كانت حركة الثورة المضادة علنية في تآمرها، كما هو واقع الحال في المنطقة العربية الآن.
في العادة، يتلفع المتآمر بالظلام، ويموه نفسه باستخدام نمط معين من الكلام الخبيث فيسمي ارتباطه بالاستعمار، مثلاً، “التمسك بأهداب الدين الحنيف”، ويبرر عداءه للتقدم “بالوقوف ضد الأفكار المستوردة، ويسمي المطالبة بالإصلاح، أي إصلاحن الحادا ومروقا على مبادئ الشريعة السمحاء، وهلمجرا…
أما الآن فإن “المؤامرة” تمشي مختالة فوق الأرض العربية، وتتحرك من مشرقها إلى مغربها وبالعكس في موكب عظيم تقرع فيه الطبول وتدق المزاهر وينفخ في المزامير ابتهاجاً، وتطلق لها المدافع إحدى وعشرين طلقة للتحية والتكريم في كل مطار تحط فيه وهي تتنقل لاستكمال حلقاتها المدمرة. ويقف “أبطالها” أمام عدسات مصوري الصحافة والتلفزيون والسينما ليجاهروا بأدوارهم المعادية كلية لإرادة الجماهير وطموحاتها، غير متهيبين وغير مدارين لرد فعل هذه الجماهير، مطمئنين إلى أنهم سحقوها بالقهربحيث تصعب عليها الحركة وممارسة فعل التغيير.
علناً يستضيف حاكم دمشق وفداً من محترفي العداء للعروبة والتقدم في لبنان، ويستبقيهم لديه أياماً ثلاثة (وفق العادات العربية الأصيلة)، بينما مدافع قواته تضرب بلا كلل مواقع القوات المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية،
ويعودون من لدنه بالبشائر، ثم يعودون إليه للمرة الثانية في خلال ثلاثة أيام، فيلقاهم هاشاً باشاً، بينما شروطه تتزايد حول “لقاء المصالحة” العتيد مع المقاومة، وبينما يرفض سماع أي شيء عن الحركة الوطنية في لبنان!
وعلناً يطير الرئيس محمد أنور السادات إلى جدة متأبطاً الرئيس جعفر نميري ليبحثا مع “أخيهما الكبير” الملك خالد بن عبد العزيز وسائل تحصين “العروش” العربية من مخاطر الثورة ونزق الثوار…
(للمناسبة فإن كل حاكم عربي هو ملك وإن تنكر، أحياناً، تحت اسم رئيس جمهورية..
(وللمناسبة أيضاً فإن بعض رؤساء الجمهورية العرب يحيطون أنفسهم بهالات إمبراطورية، أين منها منع الملوك الصغيرة! والوفد المرافق لكبيرهم يضم باستمرار موظفاً فخماً برتبة “لبيس”، وموظفاً فخماً آخر برتبة “حامل الغليون”، أو “حامل البيبة” إذاً شئنا الدقة: يقف خلف سيده، فإذا رفع السيد يده ناوله البيبة محشوة جاهزة، ثم يظل مصلوباً كالصنم حتى يرفع السيد يده من جديد فيأخذ منه البيبة ويمسح المبسم قبل أن يعيد حشوها.. في انتظار رغبة صاحب الجلالة الإمبراطورية)!!
ولنعد إلى الموضوع،
.. وعلناً يطيير خدام إلى عمان، بعد التغيير الوزاري الذي لم يغير شيئاً، توكيداً لتنسيق المواقف واستمرارها موحدة تجاه الأزمة في لبنان… بينما الجامعة العربية طلبت مصالحة المقاومة الفلسطينية، وبالتأكيد فإن طريق دمشق إلى هذا الهدف لا تمر بعمان!
.. وعلناً تبادر الولايات المتدحة إلى سحب من تبقى من رعاياها (ورعايا الدول الغربية الأخرى) ومن تبقى من موظفي سفارتها، غير مستثنية الموفد الشخصي لفورد تالكوت سيلي، الذي لم يدر أحد بعد لماذا جاء أصلاً، ولماذا يسحب الآن طالما إنه لم يؤد – بعد – أي مهمة؟!
.. وعلنا “تجتاح” إيسرائيل الجنوب، والمناطق الحدودية أساساً، عن طريق “المساعدات الإنسانية” من فتح المستوصفات إلى شراء المحاصيل الزراعية إلى تامين المياه للقرى العطشى والطحين للمحاصرين الجياع!!
.. وعلنا تتقارب حتى تكاد تتوحد العبارات واللهجة في إذاعات عمشيت والكتائب والأردن و.. دمشق، التي يكاد ينكرها من يستمع إليها هذه الأيام، فما هكذا عودته دمشق أن تكون، ولا هو يرضى لها ومنها أن تصير هكذا.
علنا تتحرك المؤامرة” وتمشي مختالة فوق الأرض العربية،
وعلنا تستمر قوى الثورة العربية المحاصرة الآن في بؤرتين اثنتين في مقاومتها والتصدي لها: في ليبيا الثورة، وفي لبنان حيث تلاقت وتلاحمت قوى الحركة الوطنية وقوى المقاومة الفلسطينية المسلحة،
لكن التاريخ ليس جداراً. إنه كائن حي خلاق ومتحرك. ولقد علمنا أن كل فعل له رد فعل، وإن الثورة المضادة هي بالتحديد التي تخلق وتوفرالظروف المناسبة لانتصار الثورة.
ومن حقنا أن نستشعر بمزيد من القوة ونحن نرى هذا الحشد الهائل من الأعداء ينتظم صفوفاً لمقالتنا، فلو لم نكن “قوة مخيفة” فعلاً لما احتشد في مواجهتنا.
على إن التنظيم، والمزيد من التنظيم، يبقى هو شرط الانتصار.
وهذا هو الامتحان الحقيقي أمامنا، فإذا نجحنا فيه هان ما عداه، وإذا نحن لن ننجح فيه فقدنا حقنا في أن نكون من المنتصرين.
ولقد انتصرت الثورات، عبر التاريخ، لأنها كانت تجسد الحالة الأرقى تنظيماً وتعبئة وأعداداً للجماهير، ولأنها كانت تجسد ظاهرة متقدمة من معالمها الصدق مع الجماهير تأكيداً للاحترام العميق الذي يكنه لها الثوار بوصفهم معبرين عن إرادتها الحرة، وليسوا مجرد قادة بالسلاح لمسيرتها.
ومرة أخرى نقولها: المؤامرة كبيرة وخطيرة، لكننا قادرون بعد على مواجهتها والتصدي لها،
والامتحان الحقيقي مفتوح أمام الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية: بقدرما تنظمان الجماهير وتحلان لها من مشاكلها الصغيرة التي تشكل مجموعة الهموم اليومية المرهقة للمواطن، تعززان من قدرتها على دحر الهجمات المعادية.
وفي أي حال، فإن الطريق إلى النصر طويل، لكن طريق الالف ميل تبدأ بخطوة واحدة، على حد ما قال أحد أعظم ثوار هذا العصر المنتصرين.