طلال سلمان

على الطريق المتفقون على اختلافهم والمختلفون على اتفاقهم!

موجعة هي اقلمقارنة بين الموقف – المواقف العربية وبين المواقف – الموقف الإسرائيلي في الجولة الأولى من “حرب” المفاوضات الثنائية المباشرة في مدريدز
لقد ذهب الإسرائيليون وانقسامهم معلن إلى حد الفضيحة، وكان وفدهم ذاته هو العنوان الصارخ للاختلاف بين وزراء الحزب الواحد في الحكومة الواحدة (شامير وديفيد ليفي)، لكنهم – في مدريد كما في تل أبيب – ظلوا إسرائيليين، ولم يسمحوا لصراعاتهم الداخيلة أن تتحول إلى سلاح بيد “أعدائهم” العرب، ولا حتى إلى ورقة ضغط بيد حليفهم الأميركي.
أما العرب فقد ذهبوا وهم يدارون خلافاتهم التي لا يمكن طمسها، ويحاولون الظهور – مجرد الظهور – كمجموعة متناغمة برغم التمايز، وذات أهداف مشتركة برغم تعذر توحيد الموقف من… العدو، محتل الأرض والإرادة.
كالعادة في أية مواجهة مع العرب، التزم الإسرائيليون بالصمت وتجميد خلافاتهم الداخلية، فلم يصدر عن أي معارض أو معترض (أو وزير مستبعد) أي رأي أو تصريح أو بيان يمكن أن يسيء على “الوحدة الوطنية” الإسرائيلية ويضعف الوفد المفاوض! وحين أراد زعيم المعارضة شيمون بيريز توجيه بعض النصح إلى “خصمه” إسحق شامير فإنه اختار أن يكتب مقالاً طويلاً بمدخل فلسفي – تاريخي والالتفاف على الموضوع الأصلي حتى لا ينكشف إلا لصاحب الرسالة!
وكالعادة، ذهب الإسرائيليون وقد أعدوا عدتهم كاملة: احتلوا المسرح الإعلامي وشغلوه بالبيانات والتصريحات و”الايجابيات” والصور المثيرة، وبينها “هجمات” أعضاء الوفد أو بعض مستشاريه أو الصحافيين المرافقين على الوفود العربية لكشف ارتباكها و”عدائيتها” وخوفها من المواجهة أو انقسامها حتى في مسألة شكلية كهذهز
أما الوفود العربية فلم تترك فرصة لإثبات إنها وفود لا وفد ومواقف لا موقف إلا وقدمتها هدية مجانية للإسرائيلي، مباشرة أو عبر الأميركي، متناسية إن في ذلك ما يضر بها جميعاً ، بشروط التفاوض وبنتائجه المحتملة… إن كان لها نتائج!
وإذا ما تخطينا وقائع الجلسات العامة وهوامشها الكثيرة والثقيلة، فإن تصريحات اليوم التاريخي الطويل والمثير للكمد (الأحد 3 تشرين الثاني، نوفمبر 1991) كانت أقرب إلى مناخ “التبشير” بحرب أهلية عربية (ولو صامتة)، منها إلى جو الاستنفار المفترض في وجه حرب إسرائيلية معلنة ومفتوحة ودائمة حتى يستسلم آخر عربي من “القرعان” في موريتانيا وآخر عربي من “المهارى” في ظفار على الحدود بين اليمن السعيد وسلطنة بن سعيد في عُمان!
تكفي مراجعة مع صدر بعد جلسات المفاوضات الثنائية:
*لم يكتف “فلسطينيو الداخل” بالأطناب في إيجابية اللقاء، وفي تحررهم من عقد الشكليات كالمصافحة والابتسام، والسماح بتصوير حوار الاعتراف – التاريخي، بل وصلوا إلى حد إصدار بيان مشترك مع الإسرائيليين.
ومن أسف فإن أقوى الوفود العربية – موضوعياً ونتيجة لقوة قضيته والتسليم الدولي بعدالتها – قد تصرف وكأن جل همه تحسين شروط الاحتلال الإسرائيلي وليس التحرر منه.
لقد تحركوا وتحدثوا وفاوضوا كفلسطينيين وليس “كفلسطين” وباسمها، وكأبناء “مناطق” محتلة وليس باسم شعبهم كله في الداخل والخارج (الأردني أو العربي عموماً)، وأرض الشتات.
وبقدر ما كانوا حيويين وناجحين إعلامياً فقد استغرقتهم البراعة وبهرهم نصر الاعتراف بهم والسماح لهم بالجلوس إلى طاولة المفاوضة مع قاهرهم ومضطهدهم ولاغي وجودهم الإسرائيلي، فسقطت منهم سهواً قضيتهم الأصلية… وبسقوطها لم يضعفوا وحدهم وإنما تهاوى “الموقف القومي” الجامع (ولو نظرياً) لجيش الوفود العربية، فإذا كل وفد منها يمثل كياناً سياسياً منفصلاً ولا جامع له بالباقين إلا الجغرافيا ووحدة المنتصر عليهم جميعاً!
*أما الأردنيون فقد اندلقت لهفتهم على المعاهدة مع إسرائيل، ودخلوا في مناقصة مع الفلسطينيين عنوانها توكيد الجدارة بالتساهل (إن لم يكن بالتفريط)، والاندفاع إلى أقصى مدى بحيث بدا وكأن “اللقاء” بذاته قد حل المشكلات التاريخية العالقة جميعاً، بكل أبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والنفسية الخ.
وصحيح إن الوفود إنما “جاءت للمفاوضة” كما قال عبد السلام المجالي، ولكن التصرفات أوحت إن المفاوضة مطلوبة لذاتها أو إنها غير ذات موضوع، فلم ينتظر أحد نتائجها التي قد لا تظهر في شهر أو في سنة أو ربما في سنوات، بل بدأ يتحدث وكأن الهدف قد تحقق كاملاً بمجرد المصافحة والجلوس إلى الطاولة وتبادل الابتسامات العريضة مع عدو الأمس الذي صار شريكاً في المصير (إن لم يكن صديقاً بالتمام)!
*ومع إن الوفد اللبناني لم يرتكب أخطاء يُؤاخذ عليها وكان مسلكه طبيعياً، فإن حضوره الإعلامي كان شاحباً مع إن لديه الكثير الكثير مما يمكن أن يقوله بغير حرج، خصوصاً وإن المدفعية الإسرائيلية لم تصمت طوال فترة انعقاد المؤتمر، مما اضطره لأن يطلب تدخل جيمس بيكر الذي هاتف وزير الدفاع الإسرائيلي و”أقنعه” بضبط الأعصاب ريثما يغادر الناس مدريد!
*كان الوفد السوري أكثر الوفود العربية حرجاً وضيقاً بهذه المهمة الكريهة في مدريد، من هنا فقد كان جل همه منصرفاً إلى حماية صورة الموقف كتفاوض اضطراري بين عدوين وبرعاية دولية مهابة… فمع الالتزام الصارم بالعدائية تجاه الإسرائيلي فلا بد من قدر من الايجابية مع أصحاب الرعاية، ومن خلفهم مع العالم الذي يرغب قطعاً بالخلاص من أعباء الصراع العربي – الإسرائيلي المزمن.
ثم كان هناك الحرص السوري على وحدة الموقف العربي، ولو شكلياً، وهي التي لم تصمد لأكثر من ساعات معدودة، برغم الجهد الدؤوب الذي بذله فاروق الشرع لحماية الحد الأدنى منها.
في أي حال فقد استطاع هذا الوفد تسجيل بعض النقاط المهمة، برغم إن موقفه غير قابل للتسويق إعلامياً خصوصاً والملعب أقرب بعواطفه وبمصالحه إلى العدو.
*يبقى الموقف المصري الذي بدا جيداً من خلال النص المكتوب وركيكاً وسلبي النتائج من حيث الممارسة والمشافهة. لقد بالغ الوفد في لعب دورالوسيط، برغم تعدد الوسطاء داخل القصر ومن حوله، كما بالغ في رفع الكلفة مع الإسرائيليين وأغرى سائر العرب بالتساهل في الشكليات والاجراءات وكأنه يضمن إيجابية النتائج، في حين تهرب “العراب” الأميركي ذاته من التورط في لعب مثل هذا الدور.
مصدر المرض عواصم العرب، وإن كانت أعراضه قد ظهرت في مدريد.
فحكام السعودية والأردن ومصر كانوا يتناوبون في الضغط على الرئيس السوري حافظ الأسد للتساهل وإظهار الايجابية حتى … لا يزعل الأميركيون!
وقبل مدريد كان الملك فهد قد أوفد ابن أخيه والمعتمد الأميركي الرقم واحد في الأسرة بندر بن سلطان إلى دمشق في مهمة رديئة ومؤذية إلى أقصى حد للموقف العربي، إذ تستهدف “إقناع” السوريين بالموافقة على الشروع في المفاوضات متعددة الأطراف (وبين مواضيعها التعاون، بعد التطبيع، في المجالات الاقتصادية والبيئية والمياه الخ)، حتى قبل التوصل إلى تعهد إسرائيلي بالانسحاب من الجولان أو غيره، من الأراضي العربية المحتلة، عبر المفاوضات الثنائية.
ولقد أمضى بندر عشر ساعات كاملة في استعراض بلاغته (ثلاث ساعات مع الرئيس الأسد وسبع ساعات مع نائبه عبد الحليم خدام) من غير أن يتوصل إلى إقناع القيادة السورية بمطلبه البسيط: التسليم بالشروط الإسرائيلية سلفاً بحجة إنقاذ المؤتمر وشراء صداقة الإدارة الأميركية!
وكان وجود بندر في مدريد، متلطياً وراء عبد الله بشار الآتي باسم مجلس التعاون الخليجي، تجسيداً لبشاعة الانقسام في الموقف العربي، إذ لم يظهرا فقط إن بعض العرب “محايد” في الصراع التاريخي، بل إنه عملياً صار احتياطياً للعدو الإسرائيلي بدل أن يكون احتياطياً لأخوانه الذين بذلوا الدم والعرق من أجل بناء “مدن الملح” في الجزيرة والخليج، ثم من أجل حمايتها و”تحريرها”!
صورة مدريد الغنية بالدلالات الموجعة هي تلك التي أخذت لوزير الخارجية الأميركية جيمس بيكر وهو يرفع أصبعيه بعلامة النصر (التي اشتهر بها عرفات)، قبيل مغادرته مدريد وبعدما اطمأن إلى جلوس الوفد السوري مع الإسرائيليين للتفاوض في تلك القاعة البسيطة بقصر “برسين”.
كان بيكر يحتفل بانتصاره على “الأصدقاء العرب”.
ومن قبل مدريد، وفي بعض لقاءات بيكر مع الرئيس السوري حافظ الأسد فوجئ الوزير الأميركي بتساؤل ينضح بحرارة مضيفه الكبير.
قال الرئيس الأسد ما مفاده: “- ألا تظن إنكم تخطئون بضغطكم الشديد على أصدقائكم من الحكام العرب كي يقدموا مجاناً كل هذه التنازلات لإسرائيل في مفاوضات لا يستطيع أحد، حتى أنتم، أن يضمن نتائجها؟!! إنكم بهذا تعرضون للخطر أصدقاءكم هؤلاء. فغدا سيضطرون إلى مواجهة شعوبهم التي لا بد ستحاسبهم عن التفريط بالأرض والحقوق وقد لا تنفع صداقتكم في حمايتهم، لماذا لا تلتزمون بموقف الوسيط النزيه، كما تصفون مهمتكم، وترفعون ضغطمم حتى لا تأتي نتائج مدريد أشبه باتفاق إذعان لا يمكن لأي عربي أن يقبله”؟!
… وحرب المؤتمر مفتوحة بعد،
ومن المبكر جداً الحديث عن نتائجه، أو عن نتائج النتائج،
لكن الإسرائيلي وحده هو الذي تحدث، بعد العودة من مدريد، عن الانتصار.

Exit mobile version