مرة أخرى تبرز القيادات التقليدية، والتقليدية المطورة، إلى الساحة مدعية إنها هي التي تحمل راية “المطالب الوطنية” وهي العاملة على تنفيذها، وهي المناضلة لرفع الظلم عن المحرومين.
ومرة أخرى تبدو “المطالب” مهددة في مضمونها الحقيقي، مضمنونها الذي يستهدف التوازن الوطني كطريق إلى التغيير وكتجسيد له وليس التوازن الإقطاعي والطائفي والعشائري عن طريق إعادة توزيع الحصص بما يكفل استرضاء بعض العشائر الحردانة.
وليس من خطر يتهدد “المطالب” كخطر تصويرها جزئية وعشائرية وفئوية تحل، في النهاية، بإجراء تشكيلات في هذه المؤسسة يتبادل عبرها الضباط المراتب والمناصبن أو بتعيين شخص أو أشخاص معينين، أو بتعديل الفئة الوظيفية لهذا الشيعي أو ذاك السني وهكذا.
إن تعيين محافظ شيعي، على سبيل المثال، تفصيل تافه بالقياس إلى قضية المطالب، وكذا حكاية التشكيلات في بعض المؤسسات… وماذا ينفع استبدال شخص بشخص طالما إن السبل الموصلة، والمناهج المقررة، والكوتا المحددة، هي التي تحكم مسلك المؤسسة برمتها وتحدد موقعها وفي خدمة من وماذا هي؟..
التوازن الوطني، كما نفهمه، هو تغيير في بنية النظام القائم وفي مساره بحيث يتحول الناس من رعايا إلى مواطنين، ويشترك الجميع – كمواطنين متساوين – في بناء وطن حقيقي على أنقاض الصيغة البائسة لتعايش الطوائف بشروط أمراء الاقطاع فيها، لا فرق بين أن يكون الاقطاع دينياً أو زراعياً أو سياسياً أو مصرفياً.
أن تتفيه “المطالب” بتحويلها إلى لعبة كراسي موسيقية بين عدد من الموظفين هي جريمة جديدة بحق مشروع الوطن الذي ناضل “المحرومون” ومات بعضهم من أجل تحقيقه. فهؤلاء ماتوا من أجل حقهم بالمواطنية وليس من أجل أن يضاف إلى مستغليهم متنفذ جديد باسم “حقوق الطائفة”.
والذين يقفون بوجه “المطالب” ويتآمرون لعدم تحقيقها ويعملون لتنفيسها، هم هم الذين وقفوا بوجه تحول لبنان إلى وطن وتآمروا لهذه الغاية، وفيهم – بالطبع – من ينتمي – طائفياً – إلى المسلمين كما فيهم من ينتمي – طائفياً – إلى المسيحيين.
إن إنصاف مئات الألوف من المحرومين الشيعة لا يتحقق بتعيين محافظشيعي، ولا بجعل المحافظين الخمسة من الشيعة. القضية أعمق بكثير، وإلا لكانت حلت من زمان.
القضية هيك لمن لبنان؟ وهل يستمر إقطاعية للبضع عشرة عائلة التي حكمته وتحكمه منذ أن صار دولة أم يكون وطناً، ويصير بالتالي لجميع أبنائه وبغض النظر عن طوائفهم،
في الوطن لا طوائف. في الوطن مواطنون. في الوطن لا كوتا طائفية للوظائف بل مجالات للخدمة العامة مفتوحة أمام الجميع بحسب كفاءاتهم، في الوطن يكون الجند لحمايته هو ولا تحكم تعيينهمبالتالي دواعي حماية الامتيازات الطائفية، فتصبح هذه هي الغالبية ويهون الوطن على أصحابه فيسرحفيه العدو ويمرح.
بـ “المطالب” عبر الشعب عن رغبته في تحويل مزرعة الطوائف والعشائر إلى وطن.
ولا يغني عن الوطن رئيس أو وزير أو محافظ أوضابط، أو عشرات من هؤلاء.
ولا يسقط حق الشعب في وطن حقيقي بتكبير أكذوبة الانصاف في التشكيلات والتعيينات والمناصب.
ولا تفيد أسطورة التعايش بين كبار الموظفين المتعددة طوائفهم بدل الأسطورة القديمة عن التعايش بين الطوائف عبر كبارممثليهم، بديلة عن الوطن وعن حقوق المواطنين فيه ومن ضمنها الرئاسات والقيادات والمناصب جميعاً.
إن المطالبة الفئوية تكرس الامتيازات الفئوية، وطائفية المطالبين تكرس طائفية المطلب.
والمطالب أكبر من الفئات والفئويين والطائفيين جيمعاً، بمقدار ما تتصل بالوطن ذاته.
ماذا ألم يسمح واحدكم بالوطن من قبل؟!