بعد سنتين من مغامرة صدام حسين الحمقاء في الكويت، قليل هو الكلام العاقل الذي يصدر عن “قيادات” و”مسؤولين” سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة، مما يفيد في اتنقاذ ما تبقى من المستقبل العربي المنظور.
حتى خارج العراق والكويت يمضي معظم المعنيين من “أولي الأمر”، عربياً، في الحرب وكأنها مفتوحة إلى الأبد، مما يشجع الحاكمين في القطرين الشقيقين على الاستمرار في لعبة الحرب وكأن الهدف الحقيقي منها هو القضاء على العروبة ذاتها، وعلى آخر عربي مؤمن بقوميته وبوحدة أمته، وجوداً ومصيراً ومصالح عليا.
وهكذا نشهد “مناقصة” في العروبة تتجاوز أي حد أخلاقي إضافة إلى تصادمها مع الواقع الموضوعي.
الاستفزاز إقليمي، كياني، شوفيني، وشخصي إلى حد كبير، والرد من الطبيعة ذاتها: شوفيني مغلق بالتعصب حتى التعامي عن حقائق الحياة بما فيها التاريخ والجغرافيا وعلة الوجود.
بحجة تحدي الاحتلال الأميركي يذهب صدام حسين بعيداً في تهديداته الفارغة، بحيث يبرر هذا الاحتلال ويزيد من رقعته، ليس فقط داخل الكويت (وسائر أنحاء الجزيرة والخليج) بل أيضاً داخل العراق نفسه شماله وقلبه والجنوب.
وتسقط معارضة المغتربات المكيفة، العراقية، في فخ المناقصة فتدور في أنحاء العالم، وصولاً إلى واشنطن لتطلب منها بخفة وغباء وارتهان علني أن تعمم فضل احتلالها لشمال العراق على جنوبه،
وبحجة حماية الذات من تهديدات صدام حسين، التي لا بد من تجديدها بين الحين والآخر لتوكيد “انتصاره”، أي بقائه في السلطة، لاستدراج الهجمات الكلامية عليه، يندفع بعض رموز السلطة في الكويت في اتجاه واشنطن طالبين المزيد من الجنود والصواريخ والمعدات العسكرية والقواعد… يبيعون استثماراتهم في الخارج بأقل من سعرها الفعلي ويدفعون “للمحرر”، ويدفعون لمواطنيهم في الداخل ليشتروا سكوتهم وتأييدهم لسياستهم التي لا تصون ولا تحمي إلا… الاقتصاد الأميركي المتهالك!
ومن أجل ربح أصوات الناخبين الأميركيين، وأهمهم هنا اليهود واللوبي الإسرائيلي، فمن لم يقنعهم النصر الباهر لـ “عاصفة الصحراء” في تزكية جورج بوش والتجديد له، تندفع الإدارة الأميركية إلى تسعير نار الحرب (الكلامية) كلما هدأت، استرضاء للداخل، ولجماً للحلفاء بداعي الاستنفار المتجدد، ونهباً لمزيد من الأموال العربية ثمناً لسلاح لن يستخدم ولن يفيد استخدامه إذا وجد من يستخدمه في اللحظة المناسبة وبالكفاءة المطلوبة وعلى الهدف الصحيح.
إذن هي الحرب ضد الأمة وليس ضد هذا الحاكم أو ذاك.
فالعراقي الآن أقل عروبة، بالقطع، لأنه يرى أن أمته تخلت عنه، تاركة لصدام حسين أن يظل يجره من حرب خاسرة إلى حرب خاسرة أخرى…
والكويت الآن، وبالذات ذلك المتصل بالسلطة، يعاقب الأمة العربية على غزوة صدام حسين، فينتقم منها بتمزيق وجهه للخلاص من لون بشرته، ويستبدل اسم “مرزوق” بـ “بوش” واسم “لولوة” باسم “تاتشر” ويكاد يبدأ صلاته بـ “بوش… م الله الرحمن الرحيم”!
والتنكر للعروبة، ومعاقبة العرب، لن يغير شيئاً من واقع الكويت في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فهو لن “يلغي” العراق… وإذا كان بعض المتعصبين والأغبياء من المسؤولين الكويتيين قد حذفوا “العراق” عن الخريطة، وشطبوا أسماء بغداد والبصرة ودجلة والفرات من الكتب المدرسية ومن لافتات الشوارع، فإن ذلك لم ينقل الكويت إلى القارة الأميركية، ولن يطمئنها إلى مستقبلها في ظل هذا الحقد المتفاقم يوماً بعد الآخر إلى درجة سرطانية خطيرة.
لقد كانت الكويت دار العرب. ولم تعد كذلك. وكانت مطبعة العرب وكتابهم وإحدى صحفهم، ولم تعد كذلك. وكانت جامعتهم ومستشفاهم، ولو جزئياً، ولم تعد كذلك… فخسرت مع هويتها دورها الذي اكتسبته بسياستها العاقلة (أيام حكم العقلاء) وليس بفلوسها، التي أدخرتها لتدفعها أجراً للمرتزق الأميركي (كما قال بعض الأدعياء الكويتيين غداة “التحرير”…).
وإذا كانت معركة تحرير العراق من صدام حسين تخاض في بغداد والموصل والبصرة وسامراء وتكريت وأربيل والسليمانية والأهوار والعمارة الخ وليس في واشنطن أو أنقرة، فالمؤكد أن للكويت (العربية – القومية) دوراً مؤثراً فيها.
أما إذا تصرف الكويتيون كأميركيين فالأولى بمن يطلب الأميركيين أن يقصد واشنطن، حيث لا كويت ولا عرب…
إن معركة تحرير العراق هي مهمة قومية، لا ينفع في إنجازها الأميركي ولا التركي (ولا الإيراني الذي يفهم جيداً أن تقسيم العراق خطر عليه، وقد عبر عن موقفه العاقل علناً، بينما بعض العرب يتورطون أكثر فأكثر في جريمة تقسيم العراق وتشتيت العراقيين وإذلالهم وتجويعهم بحجة معاقبة صدام حسين، وهكذا يتحولون إلى حلفاء له ينجزون ما قصر عن إنجازه في عهده السعيد…).
والكويت تكون فاعلة في هذه المهمة التي تعنيها كما تعني العراقيين بقدر ما تكون “قومية” و”عربية”، وليس بقدر ما تنافس صدام في خروجه على عروبته.
فعراق الغد صاحب كلمة في شأن الكويت، أياً كان حاكمه،
والعاقل هو من يسهم في بناء عراق الغد، بحيث تكون قوميته هي أساس علاقته بالكويت وليس إقليمية أو شوفينية جديدة تحاول استعادة “الفرع” بالقوة حتى لو أدى ذلك إلى تدمير “الأصل”.
فأين عقلاء العرب، في الكويت وفي سائرأرجاء الأمة؟!
ومتى يعلو صوت العقل على صوت الحقد الأعمى والرغبة في الانتقام ولو بتدمير الذات؟!
هل هذا كلام “لبناني”، في هذه اللحظة الانتخابية المجيدة، وهل سيسمعه “العقلاء” المحاصرون بالدعوة إلى المقاطعة وإلى تهديم ما تبقى من لبنان توكيداً للحرص على العنفوان والكرامة والسيادة وامتيازات الماضي ونكاية “بالجيران”…
برغم اختلاف الظروف، والفوارق التي لا تحصى، فإن الكويت التي تلبننت في فترة ما “تكوّت” الآن بعض اللبنانيين، وبالمعنى السلبي للكلمة.