كل جاء بأحزانه إلى “القرداحة”، أمس، ليتوحد الخاص بالعام ويجري نهر الحزن رقراقاً صافياً ما بين المحيط والخليج.
الحزن، الآن، بعض ملامح الوجه العربي كالسمرة ولون العينين،
من اليمن المطارد بشبح الحرب الأهلية إلى الجزائر التي دخلت دوامة الموت اليومي ولا تعرف كيف تخرج منها، إلى مصر المثخنة بجراح القصور والإفلاس السياسي وانطفاء شعلة القضية، فإلى العراق الذي يقتله الطغيان ألف مرة في اليوم.
الجرح مفتوح والعزاء دوار.
وفلسطين قافلة من الشهداء تمتد ما بين النهر والبحر، أقوى من الإبادة وأبقى من ناسفي المساجد والكنائس والأطفال والأنبياء والقديسين واسم الله.
ولبنان مكسور الجناح، ما يكاد الزغب ينمو في أطرافه حتى تجيئه طعنة جديدة في ظهره فتتصدع الآمال وتطل الفتنة برأسها من جديد لتموه وجه العدو الحقيقي وتخفيه.
ولقد حمل اللبنانيون أحزانهم، أمس، وذهبوا ليتوحدوا في الحزن مع سوريا بشخص رئيسها حافظ الأسد، ربما ليتعلموا منه كيف يصير الحزن الخاص حافزاً إضافياً على قبول التحدي وتصليب الموقف العام في ساحة المواجهة الأصلية.
كانت الكنيسة المنسوفة في ذوق مكايل تظلل بأرواح ضحاياها الأبرياء ذلك السرادق الذي احتشد فيه المحزونون، جنباً إلى جنب مع الحرم الإبراهيمي المتوهج بدم الشهادة، الآن، والمستمد منها قداسته.
كانت صورة العدو واضحة تماماً يرسمها نجيع الشهداء ونحيب الأمهات الثواكل وقبضات الفتية الذين ملأوا الساحة حتى لا يصادرها “المستوطنون” لحساب الموت…
الجرح مفتوح والعزاء دوار.
وليس أنبل من إدماج الحزن الخاص في الحزن القومي العام، والاندفاع قدماً في المعركة الشرسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة الأمة وحقوقها في أرضها.
لن يعود الموتى إلى الحياة، لكن ثمة ملايين الأحياء الذين يحتاجون إلى الجهد كله من أجل ألا تضيع أعمارهم هباء، أو تضعف همتهم فيقعدون عن مقاومة عدوهم السفاح والطامع في كل خيرهم، بذريعة الهزيمة والغرق في لجة الإحساس بالعجز واليأس من الذات.
لعل كنيسة الذوق قد افتدت جميع الكنائس والجوامع وسائر بيوت العبادة، أو هذا ما يجب أن يكون.
ولعل الحرم الإبراهيمي قد افتدى بعضاً من فلسطين التي كانت مهددة بالضياع كلها فاستنقذ منها “مشروع دولة” إن لم تقم اليوم فلا بد من قيامها غداً، أو هذا ما يجب أن يكون.
لعل الوجع يفتح البصيرة وينبه المستكين إلى وهم “السلام” الآتي فيدرك أنه أمام حرب جديدة قد تكون الأخطر في كل تاريخه، فإن هو خسرها – بالاستكانة والاطمئنان إلى النظام العالمي الجديد – خسر الدنيا والآخرة معاً.
الجرح مفتوح والعزاء دوّار.
وليس أسهل من الانكسار تحت وطأة الحزن الشخصي.
وليس أنبل من توظيف الحزن سلاحاً من أجل مقاومة أفعل.
فالحزن عاطفة نبيلة تجمع ولا تفرق، تقرب المسافة بين المتباعدين من الناس، لأنها تشعر كلاً منهم بضعفه منفرداً وبحاجته إلى الآخرين وإلى دفء احتضانهم الذي يهون عليه الهمين: المصاب والوحدة في استقباله.
وحده الضعيف ينكسر بالحزن، فيهرب بضعفه من الناس ويعزل نفسه فتتفاقم مرارته وتعطله تماماً فتختل أحكامه وعلاقاته بأهله ولا يعود قادراً على التفريق بين الصح والخطأ، بين العدل والظلم، بين الأخ الشقيق والرفيق الصديق وبين العدو المبين.
الجرح مفتوح والعزاء دوّار.
… ولقد علمنا حافظ الأسد كيف نتقوّى بالحزن وليس فقط كيف نكون أقوى منه.
أعطى المثل في كيف يكون القائد “شخصية عامة”، حزنه هو بعض علاقته بالناس، يصله بهم بدل أن يقطع بينه وبينهم، منهم يستمد الفرح، متى جاء أوان الفرح، وهم يأخذون عنه حزنه الشخصي بقدر ما يستشعرون أنه مهموم بهمومهم الثقيلة.
علمنا حافظ الأسد أن الحزن الشخصي مرجأ، لأن الأمر الداهم هو مواجهة مصدر الأحزان جميعاً.
كان جثمان نجله “باسل” مسجى أمامه، لكن فكره كان متجهاً إلى العدو، وغلى ما يمكن أن يفيده من الانشغال بالحزن الشخصي للطعن بأهلية القيادة أو للافتئات على المصالح القومية العليا، إذا ما أخذتنا المواجع الخاصة بعيداً عنها.
كان في الامتحان الأقسى لشخصه كإنسان، كأب، كرب أسرة.
ولقد ظل حافظ الأسد “القائد” و”الرئيس”، ولم يذهب “الوالد الثاكل” بمسؤوليات هذا أو ذاك، فالظرف عصيب والأيام حبلى بالمفاجآت وبنذر المزيد من الانكسارات والتراجعات على المستوى القومي.
والحزن الشخصي ترف لا تسمح به موجبات القيادة أو حراجة اللحظة السياسية.
وهكذا اختزن في قلبه حزنه وأكمل ما كان بدأه قبل جنيف ثم اندفع فيه إلى مداه بعدها: صموداً في واشنطن ومقاومة في الميدان الحرب للمواجهة مع العدو، حتى لا يزيف على العالم، ومن بينهم العرب، مفهوم السلام فيجعله استسلاماً.
ولقد كان بين أسباب الأسى على باسل الأسد الخوف على “القائد” من أن يهده الضعف الإنساني المشروع فترتبك قلعة الصمود الأخيرة وتتعثر إدارة المعركة القاسية مع العدو الصهيوني، ويضيع الكثير من إمكانات الصمود التي لم يتيسر استنقاذها إلا بمجموعة من المعجزات.
لكن باسل الأسد ظل، وهو ميت، ما كان في حياته: ظل يضيف إلى رصيد أبيه ولا يسحب منه، ظل جندياً في الميدان وليس “ابناً مدللاً للرئيس” يعطي نفسه ما ليس من حقه محتمياً بحصانة غير قابلة للطعن.
الجرح مفتوح والعزاء دوّار.
لكن العديد من المعزين “اللبنانيين” تشجعوا بالحزن ليجعلوها ساعة للحقيقة، فأشاروا إلى الكثير من أسباب المواجع التي تضني لبنان والتي لا مرجع لها إلا حافظ الأسد، شخصياً، طالما أنه وحد حزنه الخاص بأحزان الأمة، ولبنان هو الأعز لأنه الأصغر ولأنه الجريح الذي لما يشف…
لقد حمل اللبنانيون أحزانهم إلى القرداحة، أمس، يطلبون المواساة والتعزية، والأهم: معالجة أسباب حزنهم، وهي من طبيعة قومية، كما أنها تنبع من ميدان المواجهة الأصلي وتتصل بموجبات الصمود.
ورحم الله باسل الأسد الذي وحد الحزانى، وأعطى لبنان الفرصة لا لكي يشارك حافظ الأسد في حزنه، وإنما ليطالب حافظ الأسد بأن يعالج له ومعه وفيه بعض أحزان الأمة جميعاً.