طلال سلمان

على الطريق المملكة… بين بيروت وواشنطن!

لو إن رفيق الحريري أميركي الجنسية لكان رجع من المملكة بما طلب وأكثر،
فليس من العادات الملكية رد الأميركي – أي أميركي – خالي الوفاض، بالغاً ما بلغ ما يطلبه أو يحتاج إليه إنعاش الاقتصاد المتردي في بلاده العظيمة،
ولو أن رفيق الحريري مجرد مقاول أو رجل أعمال يسعى إلى مناقصة فلكية الارقام في مملكة الذهب والصمت، لنالها وهو مكرم معزز.
ولو أن رفيق الحريري يطلب مساعدة شخصية، لنفسه أو لغيره، كمثل بناء بعض المساجد أو الكنائس التي لا تجد المصلين، لحصل على ما يزيد عن طلبه،
لكن رفيق الحريري، صاحب الدولة، رئيس مجلس الوزراء في لبنان، لم يحظ من “المملكة” التي تسكن قلبه بأكثر من وعود لطالما “حظي” بمثلها أي مسؤول لبناني سبق أن زار تلك الأرض الحرام التي شرّفها الله ببيته والرسالة.
ولقد اعترض من اعترض على الزيارة الخاصة، بلقاءاتها الملكية، في ضوء نتائجها، وليس على مبدأ القيام بها أو الشكليات التي رافقتها أو بالذات تلك التي غابت عنها.
في حين أن الاعتراض على بيان رفيق الحريرين في جدة، في ختام زيارته للمملكة، كان مبدئياً، ويتصل بالجوهر أي بالمضمون قبل أن يصل إلى الملافظ والتعابير التي لا تتناسب لا مع الموقع الجديد لرفيق الحريري ولا خاصة مع حالة الإجماع التي استقبله بها اللبنانيون والتي انتهت إلى تشريفه باللقب السامي.
فرفيق الحريري اليوم هو غير رفيق الحريري بالأمس. ورفيق الحريري المسؤول اللبناني الأول، هو غير رفيق الحريري رجل الأعمال الذي نال الحظوة لإنجازاته في مجامل المقاولات فأنعمت عليه المملكة، استثناء، بجنسيتها.
ولقد تعاملت المملكة مع الحريري كرئيس لوزراء لبنان فلم تعطه أكثر مما أعطت غيره من المسؤولين اللبنانيين الذين سبق لهم أن زاروها وتمنوا عليها إنجاز وعودها وتعهداتها السابقة بالمساهمة في إعادة إعمار لبنان، سواء عبر تنفيذ مقررات قمة تونس الشهيرة، أو عبر “بعث” مشروع الصندوق الدولي لإعادة إعمار لبنان، أو عبر التفضل بمساعدة مباشرة ومن “جيبه الخاص”، أو عبر هبة تتصدق بها على إخوانها المحتاجين في لبنان،
أما الحريري فقد قال أكثر مما يجوز حتى لو نال ما طلب، فكيف وهو لم يرجع بالحد الأدنى مما كان يأمل في الحصول عليه… ولو بحكم الدالة والحظوة القديمة؟!
ما علينا، لنعد إلى صلب الموضوع.
وصلب الموضوع أن المملكة التي ضنت على اللبنانيين، وأيضاً على الصوماليين البؤساء بحفنة من الدولارات، تعرض دماء أبنائها سخية فداء للأميركيين ومصالحهم فيها ومن حولها.
فتحت العلم الأميركي، وبأمرة القيادة الأميركية، وفي مهمة قررها الرئيس الأميركي منفرداً ولأغراض ومصالح أميركية، ستشارك “المملكة” بقوة من جيشها في تحرير الصومال من الجوع والجياع!
في كل حرب أميركية، بل في كل غزوة “تحريرية” ضد العرب، يصادر الأميركي وجه العربي، فيقنع وجهه لإيهام العرب وسائر الشعوب من خلفهم، بأنه إنما يلبي طلباً عربياً، أو يحقق هدفاً يريده العرب ولحسابهم ومن أجلهم وطمعاً برضا الخالق سبحانه وتعالى، ليس إلا.
وهكذا فإن بعض القوات المسلحة للمملكة ستذهب فترفع علمها المشرف بالشهادتين فوق رأس العسكر الأميركي الذي يبدو أنه قرر اجتياح أفريقيا بدءاً من قرنها، مستكملاً به ومعززاً وجوده على الضفة الأخرى للبحر الأحمر في الجزيرة والخليج، مقيماً سياجاً من الحديد والنار و”الإنسانية” حول “نفطه” العربي.
وقبل أيام كانت “المملكة” تتحدث عن احتمال إرسال بعض قواتها المسلحة لنصرة المسلمين المقهورين والمهددين بالإبادة في البوسنة والهرسك على يد الصرب من أعداء الله.
وبين القرارين، ووسط الانهماك الشديد في إعداد الحملات العسكرية لتحرير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، تستعد “المملكة” لأن تعين لبنان على تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ القرار الدولي 425، كمدخل لإعادة إعمار لبنان وبعث دوره في خدمة قضايا أمته، كما قال الحريري في بيانه الذي ضرب في جدة.
ولأن “المملكة” لم تكن على علم لا بالاحتلال الإسرائيلي للبنان، ولا بالقرار الدولي، فقد تعهدت للرئيس الحريري بالعمل فوراً على طرد المحتل وإلزامه بتنفيذ القرار 425 كاملاً غير منقوص، حرصاً على عدم حصول نقص في الـ 10452 كلم2، وهي كامل مساحة السيادة اللبنانية بما فيها الوسط التجاري لمدينة بيروت.
ولأن “المملكة” منهمكة في تحرير الشعوب، سواء من الفقر أو من الاضطهاد أو من الاحتلال، فإن أحداً من مسؤوليها لم يجد الوقت الكافي “لتحرير” الصكوك بالمعونات والمساعدات التي ألمح إليها ضيفهم اللبناني بغير أن يطلبها، لأنه صاحب دولة و”الدولة لا تشحذ”.
على هذا، فقد عاد رفيق الحريري بمزيد من الوعود والتعهدات الملكية التي سيجري ضمها بعناية إلى الأرشيف المذهب لقرارات القمة واللقاءات فوق القمة والخطب والكتب الرسمية إضافة إلى المراسلات والرسائل الشفهية التي طالما شرب اللبنانيون من زومها فلم ترو عطشهم ولم ترد عنهم غائلة التعاسة.
لقد صار وجه العربي، مثل “البربارة”: مجرد قناع يستخدمه الأميركي في حروبه وغزواته “التحريرية”، في البلاد العربية،
مع فارق: إن وجوه البربارة تستخدم للتسلية أو للترفيه أو للمتعة، في حين أن وجه العربي قد استخدم من قبل ويستخدم الآن في المهمات الأميركية القذرة والموجهة أساساً ضد العرب، في حاضرهم ومستقبلهم.
ومن قبل كان الاستعمار القديم يبرر اجتياحه للبلدان بالعمل لتحريرها من اضطهاد الإمبراطوريات العتيقة والسلطنة المهترئة،
أما الغزو الأميركي المسلح فيتم الآن تحت شعار التحرير بالديموقراطية وتمكين الإنسان من ممارسة حقوقه.
وهكذا يقطف الأميركي مجد التحرير ثم ينزع قناع الوجه البشع فيرميه في مزبلة التاريخ باعتباره رمزاً للماضي والتخلف وعدم الأهلية للتمتع بحقوق الإنسان!

Exit mobile version