لا تساعد تصريحات وارن كريتسوفر وأحاديثه مع المسؤولين الذين التقاهم خلال جولته الأولى في المنطقة، على فهم أفضل للإدارة الأميركية الجديدة وسياستها الخارجية، خصوصاً إذا ما حاول “خبراء النصوص” تحديد نقاط التلاقي والافتراق بينها وبين إدارة جورج بوش وسياستها الخارجية حيال منطقتنا بالذات.
لقد قال وزير “الجديد” الشيء ونقيضه، وقال في كل محطة ما يرغب مستقبلوه في سماعه، لكنه سرعان ما كان يحاول التخفيف من أثر الكلام السابق في ما يعلنه لاحقاً في المحطة التالية.
ولعل بعض العرب يرون أنهم حققوا أرباحاً بالمفرق، لكن الجميع يعرفون أنهم قد خسروا بالجملة.
وربما كان أخطر نتائج جولة كريستوفر أن الشرخ داخل الصف العربي قد ازداد عمقاً، وهي نتيجة مفجعة تتجلى تماماً في الموقف أو المواقف الفلسطينية.
إسرائيل أكثر تماسكاً، مقابل صف عربي أكثر تفككاً،
أما النتائج العملية فلسوف تتبدى عند استئناف المفاوضات الثنائية في نيسان المقبل، وبعدما تكون “الرشاوى” الفردية قد فعلت فعلها، وبعدما يكون الابتزاز بذريعة إنهاء مسألة المقتلعين الفلسطينيين من أرضهم قد استنزف الكثير من الجهد العربي المدخر للمفاوضات الصعبة حول السلام المستحيل.
لقد دغدغ كريستوفر الأنظمة العربية فطمأن كلا منها على أمنه، كما دغدغ كيانية أو شوفينية كل قطر، ابتداء بمصر وانتهاء بالكويت، موهماً كل طرف على حدة بأن مشكلته مختلفة وإن له حله “الأميركي” الخاص.
في هذا المجال لا بأس من نصح النظام المصري بالتشدد في مطاردة “خصومه الأصوليين” على حساب الديموقراطية، وبالمقابل فلا بأس من ترشيد النظام الكويتي بأن تدخل المرأة رحاب ديموقراطيته الأميرية، أما في السعودية فيختفي الحديث عن الديموقراطية نهائياً لتتركز المطالبة على ضرورة الإسراع في طي صفحة المقاطعة وتكثيف الجهود لإعداد المسرح لمرحلة ما بعد الصلح مع إسرائيل.
أما في لبنان فلا بأس من تجاهل القرار 425 والانسحاب الإسرائيلي الفوري وغير المشروط من الأراضي اللبنانية المحتلة، وبالمقابل يثار – ولو بشكل جانبي – موضوع الوجود العسكري السوري وضرورة تنفيذ ما نص عليه اتفاق الطائف لجهة إعادة الانتشار… توطيداً للسيادة وتدعيماً للاستقلال والجمهورية الثانية المتينة الأركان!
والخلاصة أن الحل ليس في واشنطن ولكنه في تل أبيب، وإن المفاوضات وسيلة لكن الاتفاقات الثنائية، ومن ثم التطبيع الكامل هي الهدف.
فواشنطن هي المنقذ، وليست طرفاً، هي المرجعية ، ولكل طرف حسب قوته ومن كل طرف حسب حاجته. وطالما أن العرب هم الطرف الأضعف وهم الأكثر حاجة إلى “السلام” فعليهم هم أن يعطوا، وواشنطن توافق وتقر وتبارك هذا الاندفاع المخلص نحو “السلام” الإسرائيلي في ظل نظامها العالمي الجديد.
الملاك المسلح..
صورة “الأميركي المنقد” أو “الأميركي الملاك” هيالتي يجب أن تسود على أنقاض صورة “الأميركي القبيح” التي كانت هي الرائجة، وهي المعترف بها دولياً طوال الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات.
“الأميركي المنقذ” هو “بابا نويل” الجديد: يهبط من السماء، كملاك الخير، لينقذ الجياع في الصومال من جوعهم ومن الميليشيات التي استولدت معظمها المخابرات المركزية الأميركية، ومن صراعهم المدمر على السلطة… ولواشنطن وحدها، بوصفها المرجعية الكونية، حق القرار في من يكون الحاكم وكيف وبمن يحكم في مقاديشو، وإلا حصد رصاص المنقذ جموع المعارضين!
للمناسبة: كانت صور “المواجهة” في شوارع العاصمة الصوماليثة بين ” اليانكي” الأميركي و”الأشباح” الأفارقة أعظم من أن تحتاج إلى شرح.
أقوى قوة في الكون تطارد مجموعة من الهياكل العظمية بالدبابات والمدافع والبنادق الرشاشة، فإذا استسلم “الشبح” أمره “رامبو” بأن يرفع يديه، فيرفع عودين عظميين رقيقين كالطيف، ثم يأمر بأن ينزع قميصه الذي لا يمكن أن يخفي شيئاً، فإذا ما نزعه تقدم “رامبو” يفتش تجويفة الصدر والعمود الفقري وعظمتي الحوض، حتى إذا ما اطمأن إلى أن العظام “نظيفة” من اللحم والعبوات الناسفة أهوى عليه ببندقيته فإذا ما هوى أرضاً أخذ بركله محطماً تلك العظام الناحلة مظهراً لملايين المشاهدين الذين يتابعونه عبر الشبكات الأميركية الكونية، كم هو جبار.
الملاك المعاصر مسلح حتى أسنانه. فالصلاة وحدها لا تبني نظاماً عالمياً جديداً.
… والمنقذ!
إنه المنقد!
إنه منقد الحكام المُرضى عنهم من معارضيهم، كما في الجزائر أساساً ثم في مص ر، حيث تتبدى العلاقة عضوية ووثيقة بين نمط الحكم القائم وبين الجوع الذي بعض بنابه “الرعايا” حتى الموت فيخرجون إلى الشارع غاضبين يطلبون الخبز!
وهو “منقذ” المعارضين، حيث تقضي مصلحته بإضعاف الحكم، فإذا تعذر فلا باس من تدمير البلاد كلها “لإنقاذ” … حقوق الإنسان!
وهو يهب للإنقاذ متأخراً، كما في البوسنة والهرسك. فها هو يسقط المناشير تمهيداً لإسقاط المساعدات الغذائية بعدما أبيد نصف الشعب، وبعدها اغتصبت كل الفتيات والنساء تقريباً، وبعدما تزايد عدد الأيتام إلى حد أن إسرائيل – التي تمارس ضد شعب فلسطين مثل ما يمارس ضد المسلمين في يوغسلافيا السابقة – هزتها النخوة والأريحية فقررت تبني بعض الذين فقدوا ذويهم هناك!
فإسرائيل هي “منقذ” آخر، ولو من موقع التابع للمنقذ الكوني!
إنها وكيل المنقد في الأرض العربية،
المنقذ بالتفكيك!
على أن أخطر ما يأتيه “المنقذ” هو اتجاهه إلى التعامل مع الأديان والمذاهب و الطوائف وليس مع البلد المعني كبلد له كيانه ووحدته الوطنية شرط حياته.
إنه يبحث عن عناصر التفتيت والتفكيك فيرعاها، ثم يستخدمها أداة ابتزاز ضد البلد وجواره أيضاً، وأحياناً ضد قارة بكاملها،
إنه في العراق، مثلاً، يتجاوز “الكيان” و”الوحدة التاريخية” لشعبه، ويصرعلى التعامل مع العناصر أو الطوائف (الأكراد في الشمال وبعض الشيعة في الجنوب) مدمراً بذلك إمكانات قيام معارضة وطنية جامعة وقادرة على طرح البديل الوطني الموحد لصدام حسين.
وهو بذلك لا يفعل غير تثبيت صدام حاكماً على بغداد وما جاورها، وتحت حمايته، وغيرتدمير العراق كأحد أقوى وأهم الأقطار العربية.
وعبر العراق المدمر والمقسم والمفتت يصبح من السهل ابتزاز العرب جميعاً، وتحت حمايته، وغير تدمير العراق كأحد أقوى وأهم الأقطار العربية،
وعبر العراق المدمر والمقسم والمفتت يصبح من السهل ابتزاز العرب جميعاً، وانهاكهم بحيث لا يعود أمامهم غير قبول شروط السلام الإسرائيلي.
أما في يوغسلافيا وعبرها فهو يبتز أوروبا كلها، إذ يلوح بشبح التقسيم على أساس من العرق أو الدين أو المذهب، لكي تسلم مختلف دوله بشروطه التجارية، لوكي يظل الدولار هو سيدها وهو المتحكم بحاضرها ومستقبلها.
بين منقذين بالقتل!
على أن “الضحايا” هم المسؤولون عن اصطناع هذه الصورة للمهيمن الأميركي كمنقذ إنسانيعلى مدى الكون!
إن “الأخبار” هي أشبه ببورصة يومية لعدد القتلى ممن يذهب بهم رصاص “المتطرفين” أو تفجيراتهم الوحشية!
إن “الإسلامي” أو “الأصولي” أو “المتطرف” هو الخبر، سواء أكان قاتلاً أم مقتولاً، بل إنه يكاد يكون الخبر الوحيد عن منطقتنا.
والجرائم الصغيرة، سواء ارتكبتها الأنظمة الدكتاتورية، أم ارتكبها بعض قصار النظر وبعض من يعميهم التعصب من المنظمات السرية والتي تعيش تحت الأرض وتعطي نفسها صلاحية محاسبة الناس على نواياهم.
إن هذه الجرائم تفيذ الأميركي كثيراً لبلورة صورته كمنقذ.
بل إن هذا المتطرف في الداخل والأعمى بالتعصب يقدم نفسه، هو الآخر، كمنقذ، فيحاصر الناس بين “منق ذين”: هو يطاردهم بالتكفير والرصاص في الداخل، حتى يلجئهم أو يضطرهم إلى التسليم بـ “المنقذ” الآخر الآتي من آخر الأرض – وتحت لافتة الديموقراطية وحقوق الإنسان – لتخليصهم من “إخوتهم – الأعداء”.
ومن يفجر مقهى “وادي النيل” في القاهرة لا يفعل غير التمهيد لمزيد من ارتهان النظام المصري لدى المنقذ الأميركي.
بل إن أمثال هؤلاء القتلة، والذين لا يمكن أن تكون لهم علاقة بالإسلام، هم الذين يمسحون من عن الأميركي صورة المستعمر ويسرون له أن يتقدم بوصفه المنقذ.
إنهم “خدم “الأميركي الجميل”،
إنهم يزورون صورته، ثم يسوقونها حيث لم يكن مجال لقبولهاز
إنه النظام العالمي الجديد!
سفاح في الداخل، وملاك مسلح يهبط من السماء لوقف حرب أهلية سبق له أن دبرها وأشعل نارها، لكن ضحاياها يتصرفون وكأنهم اصحاب القرار. فتكون فرصة لتغيير الكون على الطريقة الأميركية.
والعلة في الداخل.
وطالما تعذر العلاج الداخلي فلسوف يتزايد باستمرار عدد من ينتظرون هبوط الملاك الأميركي المسلح من “مدخنة” الحرب الأهلية المفتوحة.