على عادتها في السخاء، منحت السعودية علي عبد الله صالح نصراً يتجاوز قدراته وما كان يتمناه.
لكن الأخطر من النصر المؤزر لذلك “الرئيس” الفقير والمفتقد النصير، لاسيما بعد هزيمة حليفه القوي صدام حسين، هي الهزيمة المدوية التي لحقت بالمملكة التي طالما تصرفت باعتداد من يملك مقادير البلاد والعباد جميعاً،
وهي هزيمة بدايتها في واشنطن وبعض نهاياتها في عدن والمكلا وسائر أنحاء “الجمهورية الملكية الديموقراطية الشيوعية” في جنوب اليمن.
هل كان ضرورياً لمملكة عريقة في علاقاتها مع السيد الأميركي أن تكتشف متأخرة ومفجوعة أن واشنطن كما العواصم الأخرى ليس لها أصدقائ دائمون وإنما لها مصالح دائمة، وأنها يمكن أن “تخون” أقرب حلفائها وأصدقهم وأكرمهم معها من أجل “نظام قبلي غير مضمون” كالذي كانت تراه الرياض في صنعاء؟!
إن الخذلان مر، وأمرّ منه أن تكون المملكة قد جرّت الهزيمة على “أشقائها” الصغار في مجلس التعاون الخليجي، وهي من فرضت عليهم موقفها المتعنت والضيق الأفق من الصراع على السلطة في اليمن، فورطتهم في تحالف مغلوط مع الطرف الأضعف والأغبى، بوهم أن ذلك ما يناسب المصلحة الأميركية؟!
إن الضحية الكبرى للهزيمة السعودية القاسية في اليمن هو مجلس التعاون الخليجي، الذي يبحث الآن كما أولئك الفارون من “جنة عدن” عن “بلد آمنم” يمنحه حق اللجوء السياسي… بل أن وضع مجلس التعاون أصعب حتى ممن وضع علي سالم البيض وعبد الرحمن الجفري وسائر “الفارين” والمطاردين في اليمن،
فذلك المجلس الهش التكوين، والذي ظل يفتقر دائماً إلى مبرر لوجوده غير هرب الأخوة الأغنياء من إخوتهم الفقراء، وبين أولئك الفقراء، بل في طليعتهم اليمن، مهدد بأن ينتهي مع الحرب في اليمن.
وقد لا يكون سقوط هذا المجلس خسارة للعرب، ولكنه بالتأكيد خسارة للمملكة التي افرتضت أنها تبتني عبره زعامة لم تستطع تحقيقها في المدى العربي الواسع،
وسيكون على دول الخليج جميعاً الآن أن تعيد حساباتها وأن تعيد النظر في “استراتيجياتها” القائمة على أن الانعزال هو أقصر طريق إلى الأمان، وأن الالتحاق الأعمى بالرغبة الأميركية، والاطمئنان إلى الرعاية الأميركية وحدها، وإهمال الأخوة والجيران ومعطيات الجغرافيا والتاريخ وحقائق الحياة… إن كل ذلك لا يؤدي إلا إلى الانتحار، مشفوعاً ببيان أميركي مقتضب يؤنب الذين تصرفوا بقصر نظر، وافترضوا أن واشنطن تنوب عنهم في كل أمرهم، وتقاتل نيابة عنهم لكي يناموا هانئين، وأنها لا يمكن أن تتردد في الانحياز إليهم ضد أي خطر يهددهم حتى لو كان مصدره يمنياً!
البعض يمكن أن يقول الآن أن الأميركيين قد “أنعموا” على اليمن بوحدته مرتين، الأولى سلماً والثانية حرباً، الأولى بالتوافق الإكراهي مع السعودية والثانية بالتضاد إلى حد التصادم معها،
ولقد يحس النظام السعودي بغصة كون السيد الأميركي قد فضل عليه “خصمه” اليمني،
لكن ذلك ليس غدراً، بل هو دليل إضافي على قصر النظر في المملكة الطويلة الباع والذراع.
لعلها تكون فرصة للمملكة والسلطنة وإمارات الخليج في إعادة اكتشاف بعض الحقائق البسيطة، وأهمها أن تحطيم المؤسسات العربية (من جامعة الدول العربية إلى القمة العربية) ليس في مصلحة أي طرف عربي، مهما توثقت علاقته بالأميركيين.
إن من يأتي بالدب إلى كرمه سيخسر بالتأكيد الكرم وقد يخسر حياته، من غير أن يحظى بفاتحة عن روحه وعن غير أن يلوم أحد الدب.
والأميركي قد يلبس ثياب “المحرر” مرة، كما في الكويت، ولكنها تكون مقدمة لفرض احتلاله المباشر على المنطقة برمتها،
وليس من حق الذين استقدموا ذلك “المحرر” أن يناقشوه الآن في اختياره أن يبدأ “تحرير” السعودية وسائر الخليج انطلاقاً من يمن علي عبد الله صالح!
“على نفسها جنت براقش”،
و”طابخ السم آكله”،
و”من يزرع الريح يحصد العاصفة”،
وسلسلة الأمثال طويلة، مع الاعتذار عن كونها أقل مما يليق بالحضرة الملكية!