للوهلة الأولى يبدو بيان قمة الإسكندرية وكأنه كتب بلغة “الماضي”، لغة ما قبل اتفاق غزة – أريحا ومعاهدة وادي عربة ومؤتمر الدار البيضاء والإغارة الوحدية على سلطنة عُمان، وما رافق ذلك كله من اختراقات خطيرة في المشرق والمغرب.
فالبيان يستذكر مؤسسات ومواقع ومواقف كانت قد سحبت من التداول، أو غيّبها الإهمال المقصود فعطلت عن التأثير والفعل: جامعة الدول العربية، العراق، التضامن العربي، التعاون الاقتصادي العربي، وصولاً إلى بعث تعبير “الأمة العربية” المهجور أو المحظور، ومرتكزات “السلام” التي أقيم عليها مؤتمر مدريد والتي ساد الاعتقاد بأن الاتفاقات المنفردة قد نسفتها وجعلتها بالتالي غير ذات موضوع.
لقد ارتقى الموقف الرسمي المصري إلى حيث “يحارب” المفاوض العربي الوحيد، سوريا، ووجدت السعودية، أخيراً، القدر الكافي من الشجاعة لتساند علناً الموقف الذي تقبله واشنطن ولا تجهزر إسرائيل برفضه، مبدائياً، ولكنها تعمل بكل الطرق على كسره، مستعينة عليه بطوق “عربي” من التنازلات المتعاقبة.
فقبل أيام كان شيمون بيريز يتقدم بطلب انتساب إلى الجامعة العربية، مشترطاً فقط تبديل اسمها!!! وكان رابين قد سبقه، وهو في رعاية أمير المؤمنين المغربي، إلى تحديد أدوار “العرب” في “الشرق الأوسط الجديد” الذي تبنيه إسرائيل على أنقاضهم، دولاً ومجتمعات مشدودة إلى الماضي بحيث يتعذر عليها دخول المستقبل إلا إذا أسقطت هويتها وادعاءات ما قبل الاستسلام للهزيمة.
إنها محاولة جادة لمحاصرة “الخرق” الذي يتمدّد بسرعة قياسية فيصير اجتياحاً، خصوصاً وأن “ضحاياه” يتسابقون في فتح الأبواب أمامه.
وكان أن أهمية القمة في رمزيتها كذلك الأمر بالنسبة لقراراتها: فالمهم العودة – عربياً – إلى سياق ما، المهم أن يجرؤ بعضهم على رفع الصوت بالاعتراض على ما لا يجوز وما لا يمكن قبوله. المهم أن يشجع واحدهم الآخر على إعادة تثبيت “حد أدنى ما”، بحيث يتوقف هذا السباق المهووس إلى الانتحار الجماعي تحت رايات السلام الإسرائيلي.
هل ما زال في الجامعة العربية رمق يكفل إعادتها إلى حيز الحركة، حتى لا نقول الفعل؟!
وهل يستطيع صدام حسين، بعد، أن يجيب على هذه الرسالة بما ينفع في استنقاذ ما تبقى من العراق، واستطراداً من شروط تحصين عروبة الخليج؟!
وقبل: هلى تستطيع مصر أن تبدأ بنفسها تنفيذ ما طلبته من الآخرين فتنهي هذه الحرب غير المعلنة بينها وبين السودان؟!
وهل تستطيع السعودية أن تصفي مشكلاتها الثنائية، المعنلة والمضمرة، المتفجرة بالرصاص أو المكبوتة بالعجز عن المواجهة ، والتي تشمل اليمن وقطر بداية، ثم سلطنة عمان ودولة الإمارات وأخيراً الكويت التي لا تتوانى عن إظهار ضيقها بالضغط السعودي فيما تكتفي الرياض بترداد القول المأثور “اتق شر من أحسنت إليه”؟!
بعيداً عن المشكلات الثنائية فبيان القمة يتجاوز الاتفاقين المنفردين، الفلسطيني والأردني، لكنه سيفهم في عمان بالذات وكأنه إعلان حرب على “الإنجاز الملكي”، يبدأ بمحاصرته ولكن أحداً لا يعرف كيف ينتهي خصوصاً وأن معارضي “السلام الإسرائيلي” يشكلون قوة لا يستهان بها إن هي وجدت حاضنة سياسية عربية،
وستجمع “المصيبة” بالتأكيد عرفات والملك حسين، ولو على مضض، وإن كان المرجح أن يندفعا أكثر فأكثر نحو التسليم بالشروط الإسرائيلية التي لا تنتهي.
إنها “جرعة تنبه”، على حد ما قال ضيفنا الكبير محمد حسنين هيكل، عند وصوله إلى بيروت، أمس، وهي “خطوة أولى” لا تكفي وحدها لا لوقف التدهور ولا لاستنقاذ المستقبل.
الأمر يتعلق، إذن، بالخطوات التالية، إذا ما استكملت لتساعد في رسم سياق عربي للتعامل مع الأوهام الخطرة التي يستولدها “السلام الإسرائيلي” على مدار الساعة.
والمهم أن تصمد هذه الخطوة الأولى بنتائجها المتواضعة ، فلا يلغيها الضغط الإسرائيلي، ولا يضعفها رد فعل فاتر من طرف واشنطن، ولا يهدرها الاستخدام التكتيكي المحدود في رحلة الضياع بين المشرقية والمغربية أو بين الهوية العربية و”القومية الخليجية” والتي ثبت شرعاً أنها بوابة عريضة بما يكفي لاجتياح إسرائيلي سلمي لا يبقى ولا يذر.