بعد الاطمئنان إلى فعالية العصا، يجيء دور الجزرة.
ومع المتهافت يمكن المساومة على أقل القليل مقابل أخذ أكثر الكثير.
وهكذا تستوي المعادلة: أفلم يعط بيل كلينتون، من قبل، “شريكه” الإسرائيلي، وهو “الأقوى” الحد الأقصى مقابل “الفتات” الذي أخذه (!) منه لحساب الطرف الثاني في عملية التفاوض، أي العربي الذي طالما أعلن شفاهة وخطياً وحتى بالغناء أنه “راض بقليله”؟!
فإذا أخذ “الأقوى” الحد الأقصى، ورضي “الأضعف” بالأدنى من الحد الأدنى أمكن “للسيد” الأميركي أن يكون “شريكاً كاملاً في محادثات السلام” وفي الوقت نفسه “الشريك الكامل” للإسرائيلي!! ومن غير أن يواجه برفض عربي له قوة “الفيتو”!
وفي ظل عدم اعتراض أي من الفريقين، بات بإمكان “السيد” أن يقول “أن هذه فترة حاسمة للشرق الأوسط، ومهمتنا التاريخية جعل هذا العام عام سلام”!!
لقد فعلت العصا فعلا، فلا بأس من مد اليد بالجزرة، خصوصاً وإن “الضيف” أشهر حبه للجزر، بل وتصرف كأنما جاء ليطلبه أو ليعطاه كي يسوقه!
هل ثمة تحول فيالموقف الأميركي كما افترض كثيرون ممن سمعوا الرئيس الأميركي بيل كلينتون، أمس، خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع الرئيس المصري حسني مبارك؟!
لنستذكر، بداية، أن الرئيس الأميركي اشتهر عنه أن لسانه يسبق أفكاره، وبأنه يتورط عادة – لكثرة كلامه – فيعلن ما لا يقصد تماماً، ويكون على مساعدين ومستشاريه، من بعد، أن يخففوا من الآثار الضارة للكلام “الفالت”،
مع ذلك فلا بد من التسجيل أن عبارات من نوع “الحقوق المشروعة للفلسطينيين” و”الأرض مقابل السلام”، وغيرها مما له دلالة ترضي العرب، قد عادت إلى خطاب كلينتون السياسي بعدما كانت قد اختفت منه، أو أسقطت، أو طمست عمداً.
أكثر من ذلك: كانت عبارات معادية للفلسطينيين خاصة، وللعرب عموماً. قد احتلت مكانها في صلب ذلك الخطاب بتأثير زيارة “ضيف الشرف الأوسط، إسحق رابين، ثم صار الكلام موقفاً صلداً ومستهجناً عبر تغطية الجريمة الإسرائيلية التي سرعان ما تحولت إلى مناورة سياسية كبرى تهدد مسار المفاوضات، أقله كما اعتمدتها إدارة بوش – بيكر.
فما من شك في أن الأميركي هو الذي غطى وحمى المجهود الإسرائيلي لوأد قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 799 الخاص بالمقتلعين الفلسطينيين من أرضهم ورميهم في عراء “الشرعية الدولية” وصقيع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني.
وبدا، في أعقاب زيارة رابين لواشنطن ونتائجها المعلنة، وكان العرب يواجهون الأميركيين لا الإسرائيليين، وإن الأسس التي قام عليها مؤتمر مدريد، وبالتالي المفاوضات، قد تصدعت وتوشك على الانهيار.
وبرغم جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة، وتطميناته “المسكنة”، فقد اعتبر العرب أنهم مطلوبون إلى الجولة التاسعة من المفاوضات في واشنطن “بمذكرات جلب” إسرائيلية، خصوصاً وإن رابين كان أول من حدد الموعد، ثم إنه عين للمفاوضات جدول أعمال مختلفاً كلية بنده الأول أشبه بعبوة ناسفة تتمثل بالأمر الواقع الذي فرضه على “الطرف الآخر” ، وعلى راعي المؤتمر (الأميركي)، ثم وبقوة هذا الرعي!!
وفي حين ما تزال فلسطين كلها تحت الحصار الدموي الذي يفرضه جيش الاحتلال الإسرائيلي بالنار والمدفع، فإن حسني مبارك يتقدم بعرض أن يستضيف رابين في مصر “التي ليست بأسرها في خطر” والتي “وزع عنها الأعلام صورة مبالغاً فيها”، في “محاولة لإيجاد تسوية لهذه المسألة التي تهدد السلام”!!
الإسرائيلي يقتلع الفلسطيني ويغطيه الأميركي ويحميه من العقاب، ولو المعنوي، ثم يتبرع المصري لابتداع حل ملفق يدفع ثمنه بالتأكيد سائر الأطراف العربية، والفلسطيني منهم في المقدمة!
ويكون بوسع الرئيس الأميركي عندها أن يعلن أن “إسرائيل فعلت ما يكفي للتغلب على الأزمة المتعلقة بهؤلاء المقتلعين الأربعماية عن أرض فلسطين، لكي تعود الأطراف إلى طاولة المفاوضات”،
ويكون بوسعه أيضاً أن يعلن، في ضوء ذلك، أن “أي اتفاق للسلام ينبغي أن يراعي الحقوق المشروعة للفلسطينيين”؟!
أية حقوق، بعد؟!
وأية أرض مقابل السلام؟!
يقتلع الناس من أرضهم ويطردون إلى خارجها، ويمنع العقاب عن إسرائيل، ويحلل لها أن تعتقل الأرض المفرغة من أهلها، ثم ينادى “بمبدأ”!! الأرض مقابل السلام،
… ولا أرض ولا سلام، ولا حقوق لأصحاب الأرض ولا سلام لهم في أرضهم، بل تطاردهم النار الإسرائيلية في بيوتهم والمخيمات المنسوفة؟!
إنها “الرشوة” الأميركية لأول مسؤول عربي يستدعيه كلينتون ليحمله رسالته إلى العرب، مع ذلك فثمة من يرى في هذا الموقف “تطوراً إيجابياً”؟!
وثمة من يؤكد أن العام لن ينقضي قبل أن يشهد “تقدماً حاسماً” نحو “السلام”،
… وفي كل حال يبدو، حتى إشعار آخر، وكأن المفاوضات مطلوبة لذاتها، وإن أحداً لا يريد تحمل المسؤولية عن انهيارها،
والاستمرار، وحده، لا يوصل لا إلى الحقوق المشروعة، ولا إلى الأرض مقابل السلام، ولكن ما البديل؟!
… وعندها تختفي الجزرة تماماَ، ولا يبقى في الأفق غير العصا، وهي هذه المرة أميركية في اليد الإسرائيلية، والعياذ بالله!
ألا تحب الجزر؟!