كل من وما في البلاد بحاجة إلى إعادة تأهيل،
وليس بين اللبنانيين من يكابر فيزعم إنه في حالة سوية، انطلاقاً من وضعه العائلي والشخصي وانتهاء بمصالحه وعلاقته بالشأن العام.
وليس بين اللبنانيين من هو حيث يجب أن يكون وبالكيفية التي يجب أن يكون عليها… أكثريتهم تعيش حالة المؤقت الذي يدوم، ومجموعهم ينتظرالمجهول الذي اكتسى الآن بعض الملامح المطمئنة ولكنه ما زال في مرحلة وسط بين “على وشط” و”لعله لا يكون إلا الخير”!
وكل من وما في لبنان في حالة ضعف شاملة للجوانب الاقتصادية والمادية والنفسية والصحية، وغن كان بدأ “يتنفس بانتظام” بعد فترة طويلة من اللهاث جرياً وراء سراب أو هرباً من قذيفة “طائشة” ولكنها جيدة التصويب… عليه!
من أين نبدأ؟!
لا يهم كثيراً، فكل المواقع والنقاط بدايات بما هي نهايات لما كان، وإن ظلت “الدولة” هي الهدف الذي لا يتقدم عليه هدف مهما بدا غالياً أو ملحاً.
ولقد يكون صعباً أن تبدأ عملية إعادة التأهيل بمؤسسات الحكم ذاتها، الرئاسة ومجلس النواب ومجلس الوزراء، ومعها الجيش والأجهزة الأمنية جميعاً وصولاً على الإدارة مروراً بالقطاع الخاص وانتهاء بعمال التنظيفات في بلدية بيروت الممتازة برغم اندثارها.
على إنه يبقى ضرورياً أن تتأكد الضوابط والأصول وشروط السلامة التي يفترض أن تحكم خطوات إعادة بناء الدولة، في هذه الفترة الانتقالية الدقيقة والحبلى بالاحتمالات والمخاطر.
وأول هذه الضوابط أن تنتهي موضوعة الرئيس الفرد أو القائد الفرد أو المسؤول الفرد، في أي موقع سمت مكانته أو تواضعت،
فليس بين القيمين على الحياة العامة في البلاد، من رسميين وغير رسميين، من له الحق في ادعاء الجدارة بأن يكون “المنقذ” أو صاحب الحق الإلهي في الحكم (بحكم الدين أو الطائفة لا العبقرية أو السبق في الاجتهاد، مثلاً؟!)،
البلاد بحاجة ماسة إلى نمط حكم غير الذي عرفناه قبل الحرب الأهلية وعلى امتداد سنواتها العجاف،
لقد سقط القادة الأفراد وأسقطوا معهم، وغالباً بسبب من فرديتهم المؤسسات التي كانوا يتولون مواقع الصدارة فيها،
وآخر التجارب المرة تتمثل في جنرال العتم الذي سخرت فرنسا شرفها لحماية ارتكاباته العديدة والمتنوعة!
ومن قبله سقطت أسطورة “الرئيس القائد الشاب المنقذ” أمين الجميل، الذي جاء في أعقاب تجربة أقسى وأمر تمثلت في شقيقه “بشير” ومسيرته المدمرة بنهايتها الدراماتيكية المعروفة.
وعبر تجارب هؤلاء الفرنسان الثلاثة (ومن قلدهم من القياديين والفعاليين) شهدت البلاد السقوط الذريع لمؤسساتها جميعاً، الرسمية منها أي مؤسسات الحكم – الرئاسة، مجلس النواب، مجلس الوزراء، الجيش والأجهزة الأمنية والإدارة – والشعبية أي الأحزاب والتنظيمات والهيئات الشعبية وصولاً إلى الجمعيات الخيرية.
لقد رأى كل منهم في نفسه “الملك – الشمس”،
واختزل كل منهم في نفسه “الشعب” و”الدولة”، الطائفة والحزب وبينهما الميليشيا، وصولاً إلى النقابة والرابطة العائلية!
ومن أسف إن معارضيهم وخصومهم قد انزلقوا إلى تقليدهم في الاستغناء بأنفسهم عن الآخرين، فجاروهم في تدمير المؤسسات المعارضة التي كان يؤمل أن توفر البديل الصالح والمطلوب.
ولم يقتصر الخطأ على من كانوا يصنفون في خانة “اليمين”، سواء اكان رجعياً أم طائفياً، عميلاً للإمبريالية أم للأنظمة العفنة والفاشية، بل هو شمل من كانوا يصنفون في خانة “اليسار” سواء أكان ماركسياً، أم قومياً أم اشتراكياً ديموقراطياً أم إصلاحياً في حدود إنسانيات السان سيمون!
ولقد كانت الميليشيا، أو عسكرة الحزب، في جانب منها، تكريساً للقيادة الفردية ووحدانية الزعامة وإلغاء للمؤسسة وجماعية القيادة… صار حق الأمرة فوق حق الرأي،
وصار التنفيذ واجباً مقدساً والمشورة أو النقاش (الديموقراطي؟) ترفاً لا تسمح به ظروف الحرب، وسادت نظرية “لا صوت يعلو على صوت المعركة” بطريقة مشوهة جعلت قضية الحياة والموت حكراً شخصياً على “القائد” الذي يملك مفاتيح خزائن الأموال ومخازن الذخيرة والسلاح و… براءة الأذن بتعويض أسر الشهداء.
من هنا، إذن، نبدأ: من إلغاء هذا التوزيع القدري (والحصري) للمسؤولية عن لبنان، أرضاً وشعباً ومؤسسات، على عدد من القادة الأفذاذ الذين أنجبتهم الحرب ثم عادوا فأنجبوها ثم عادت فأنجبتهم على امتداد السنوات السوداء الماضية،
أفليس ظلماً لهذه البلاد الغنية برجالاتها وكفاءاتها ومؤسساتها ورصيدها العربي والدولين أن تصبح حكراً على نفر معدود من “الفعاليات” التي أطلت على المسرح السياسي ثم احتلته عبر مصادفات مأساوية في غالبها وبقوة المدافع أو كواتم الصوت أو كليهما ومعهما دائماً السرطان المسمى الطائفية؟!
أفليس ظلماً “لتاريخ” لبنان أن تلخص كل منطقة فيه برجل فرد هو مزيج من كاريكاتور الكاوبوي والمغامر والمقامر(بمال غيره!!) وزعيم المافيا، وإن عصمه ادعاء تمثيل الطائفة فجعله كزوجة القيصر فوق النقد؟!
أليست جريمة أن يعيش لبنان الثقافة والعلم والابداع، لبنان الجامعات الخمس، وفي نهاية القرن العشرينن حالة إقطاعية مموهة بالطائفية ولى زمانها وانقرضت منذ قرون عدة؟!
صحيح إن إنهاء زمن الحرب الأهلية يفرض القبول ببعض التنازلات أو الشروط التي لا يمكن قبولها في الظروف الطبيعية، وبينها “استيعاب” أبطال الحرب وتحويلهم من زعماء عصابات إلى قيادات سياسية ومنحهم فرصة التقدم إلى الناس بالصورة التي يزعمون إنهم يريدونها لأنفسهم وعبر البرامج الفخمة التي تجلل انتقالهم من ميدان القتال والاقتتال إلى ميدان الخدمة العامة واستقدام الغد الأفضل.
لكن الصحيح أيضاً إن من حق الضحايا والمقتولين (على حد تعبير الراحل الكبير تقي الدين الصلح) أن يكونوا هم قاعدة الحكم الجديد وقيادته، باعتبارهم المؤهلين أكثر لإعادة صياغة الحاضر والمستقبل بما يتناسب مع طموحاتهم الموءودة والمحظورة التداول في زمن الحرب.
قد يكون ضرورياً “تطعيم” الحكم بمن يمثل حملة السلاح، لكن قيادة الحكم ليست لهم بأي حال، ولا يجب أن تكون، بل ولا يجب أن يكونوا في موقع “المقرر” أو صاحب حق “الفيتو”.
لماذا هذا الحديث واليوم بالذات؟!
لأن لجنة الوزيرين قد ختمت لتوها الجولة الأشمل من جلسات الاستماع إلى قادة التنظيمات المسلحة، سواء أتلك التي كانت أحزاباً عقائدياً أو سياسية ثم تحولت إلى ميليشيات، أم تلك التي ولدت ميليشيا ثم تدرجت أو هي في طور التجرج إلى أحزاب سياسية.
ومع التقدير لكفاءة الوزيرين المتحدرين من أصول حزبية، أيام كان الانتماء للأحزاب العقائدية شرفاً. فمن الضروري الالحاح على ضرورة التشدد في المعايير التي تكفل العودة باللبنانيين إلى المجتمع المدني وتمكنهم من استعادة دولتهم… ودائماً على قاعدة اتفاق الطائف.
والوزيران دلول ومنصور وخبيران بالمناورات والتكتكات، ثم إنهما من أبرز المطلعين – وتفصيلياً – على واقع الميليشيات، على الضفتين، وطبيعة ارتباطاتها ومصادر تمويلها وأهدافها السياسية، المعلن منها والمضمر،
ومع ضرورة التمييز بين هذه التنظيمات على أساس من تاريخها في العمل السياسي، وصدقها في الالتزام ببرامجها ومنطلقاتها العقائدية.
ومع ضرورة الفرز بين الطائفي منها و”الشعبي” بالمعنى العام للكلمة.
ومع ضرورة عدم الخلط بين من وصلت به شهوة السلطة وقوة الارتباط إلى حد التعامل مع العدو الإسرائيلي، ومن جرفته الانتهازية السياسية إلى حماة الطائفية.
مع ضرورة هذا كله فلا بد من التذكير بحقائق أساسية منها:
*إن الدولة ضعيفة، بعد، ولعلها قيد التأسيس، ولكن هذه التنظيمات المسلحة أشد ضعفاً بما لا يقاس،
فبقدر ما للدولة من مبررات وجود ومن فرص حياة وقوة تفتقد هذه التنظيمات مبررات وجودها وإمكان الاستمرار على قيد الحياة، ولو بقوة السلاح!
صار السلاح عبئاً على حامله، ولعله في غد سيقتل حامله.
*إن الدولة مطلب شعبي عام، إضافة إلى كونها حاكة ملحة عربياً ودولياً، في حين تناقصت حتى كادت تنتفي الحاجة إلى الميليشيات، محلياً وعربياً ودولياً.
صارت الميليشيا عاراً يسارع من كان يدعمها ويرعاها ويحميها إلى التبرؤ منه.
*إن قادة هذه التنظيمات يعرفون إنهم يلعبون على المكشوف، ولذا فلا يجوز أن تنطلي مناوراتهم على أحد. صارت السلطة الشرعية هي المصدر الوحيد للقوة، وبقدر الاقتراب منها والانخراط فيها وادعاء الانتساب إليها يمكن لهؤلاء السادة الأفذاذ أن يستمروا “نجوماً” في الحياة العامة.
لقد ذهب عهد “الملك – الدولة”، والكل مستعد لأن يكون “وزيراً في الدولة” المهم ألا يصنف خارجاً على الدولة فيكون مصيره كجنرالف الخريف اللاجئ بالبيجاما إلى بيت السفير الفرنسي، ألست تعرف حكاية الذي تعلم الذوق من المعلق فوق؟!
وفي أي حال فنحن أمام فرصة تاريخية يجب ألا يضيعها التسرع أو التلهف على مباشرة السلطة من القصر، أو التورط في ارتباطات فرضتها الحاجة في لحظة ضعف، أو سوء تقدير اللحظة السياسية النادرة التي نعيشز
** هي فرصة لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها (الحكم) المدنية والأمنية والعسكرية، بما يحقق جماعية القيادة وجماعية القرار.. الموحد.
** وهي فرصة، أيضاً، لإعادة تأهيل الأحزاب العقائدية، والتنظيمات السياسية، وهو أمر تحتاجه هذه الأحزاب لكي تستعيد مكانتها ودورها المفتقد الذي لا بديل له لا عبر “القائد الفرد” ولا عبر ميليشيا الطائفة.
** وهي فرصة، أيضاً وايضاً، لإعادة الاعتبار إلى العمل الحزبي والشعبي عموماً، وهو أمر تحتاجه البلاد لاستعادة توازنها. فالصراع السياسي، بقوانينه وأصوله المألوفة والمعروفة والمنطلقة من مبدأ تقديس الحريات العامة والشخصية، ضرورة حيوية لبلد مثل لبنانز
الصراع الديموقراطية وبالوسائل والأساليب الديموقراطي المشروعة، هو الطريق الذي لا غنى عنه لاستعادة وحدة الشعب وحيويته عبر التعبير الحي والمباشر عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة في توجهاتها وانتماءاتها الفكرية والسياسية.
** ثم إنها فرصة لانخراط الجميع في اللعبة السياسية، وهو أمر يحتاجه الحكم كي يستكمل شروط جهوزه لمواجهة المهام الخطيرة المطروحة عليه.
المهم أن يأخذهم الحكم إليه لا أن يأخذوه إلى حيث هم،
والمهم أن يعرف الحكم إنه في هذه اللحظة أقوى منهم مجتمعين ولو بدا في الظاهر إن أياً منهم بمفرده أقوى من الحكم بكل من وما يمثل.
إنها فرصة لبناء وطن، ودولة، وحياة سياسية، ومجتمع مدني،
ولن يغفر التاريخ لمن يضيعها، مهما حسنت نواياه، أو تعاظمت مبرراته الظرفية أو الطائفية أو الشخصية.
إن الميليشيات، في هذه اللحظة تطلب “اللجوء السياسي” إلى الدولة، وقد يكون مطلوباً أن تلجئها، ولكن ليس أن تنصبها – في لحظة انهيارها – سدة السلطة والتحكم بالمستقبل.