بغض النظر عن النص، بعبارات ذات المعاني العمومية جداً في الغالب والمبهمة في بعض المواقع، فإن “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” إنجاز لبناني وعربي ودولي قبل أن يكون إنجازاً “سورياً” بالمعنى الكياني للكلمة.
إنها بعض اتفاق الطائف ومثله: تكثيف لنتائج الحرب الأهلية وموازين القوى السائدة في لحظة القرار الكبير بوقفهاز
وهي بالتالي بعض الحل العربي – الدولي للمعضلة اللبنانية!
فليس سراً أن أحد وجوه الخلل الدائم في العلاقات اللبنانية الداخلية كان ينبع – باستمرار – من الخلل الجوهري والعميق الكامن في “شكل” العلاقات اللبنانية – السورية وطبيعتها.
ذلك إن سوريا (ومثلها إلى حد ما فلسطين) شأن داخلي لبناني، بقدر ما هو لبنان شأن داخلي سوري (وهو ليس شأناً داخلياً فلسطينياً لأن الكيان الفلسطيني غير قائم جغرافياً وسياسياً على التخم الجنوبي).
قبل الاستقلال وبعده كانت ثمة مشكلة في العلاقات اللبنانية – السورية: في توصيفها وفي تقنينها وفي ممارستها كقانون حياة.
ولقد “طارت” حكومات، وسقطت “عهود” وتبدلت سياسات وابتدعت قوانين وألغيت بديهيات، في سياق العمل المتعدد الجبهات والشعارات والقوى لتثبيت هذه العلاقات على قاعدة راسخة أو لزعزعتها وضربها وتدمير ركائزها… حتى لو كانت جغرافية – تاريخية – وجدانية – عاطفية وأسروية وبمثابة الترابط بين الجبهة والرأس.
كان لهذه المشكلة دائماً إمارات أو سمات أو عناوين تدل عليها، بهدوء مريب حيناً وبفجاجة وغلظة أحياناً، وكان لها – وباستمرارها – فعلها الواضح في الحياة السياسية اللبنانية،
من هنا إنها بلغت، في لحظات، شفير الحرب، كما إنها تحولت عند إهمالها وتركها تتفجر إلى عنصر مؤثر في سياق الحرب الأهلية،
والبعض يصنف ترك المشكلة للزمن، لعلها تشيخ وتندثر، بين أسباب الحرب الأهلية.
قبل اقتحام العنصر الفلسطيني الساحة السياسية في لبنان، بوهج كفاحه المسلح ذي الأفق القومي، وبعد انحساره فيها.
وقبل الاجتياحات الإسرائيلية المتعددة للأرض والإرادة والنسيج الاجتماعي في لبنان، وفي ظل هذه الاجتياحات التي لما تنته فصولاً والتي ما زالت تسترهن القرار السياسي عبر استرهانها جنوب لبنان وبعض البقاع الغربي،
وقبل الدول المصري الذي بلغ ذروته أيام دولة الوحدة، الجمهورية العريبة المتحدة، ولسبب إضافي مباشر هو إنه حمل جمال عبد الناصر – جغرافياً – إلى حدود الكيان اللبناني، برغم إنه كان قد اقتحمه بزخم حركته الثورية – سياسياً – قبل ذلك، كما اقتحم غيره من الكيانات التي اصطنعتها أو أوجدتها إرادات خارجية أو ظروف “تاريخية” وضعت السياسة في مواجهة الجغرافيا إن تحقق الانسجام بينهما.
قبل هذا كله، وبعد هذا كله، كان وما زال وسيبقى للعلاقات اللبنانية – السورية خصوصيتها أو تميزها الذي تأتي المعاهدة كأكمل محاولة لتحديده وتشريعه واتخاذه إطاراً جامعاً لعدد لا يحصى من التفاصيل اليومية في شتى مجالات الحياة… المشتركة!
ليست هزيمة للبنان وليس نصراً لسوريا،
ولا هي “ابتلاع سوري” للبنان، ولا هي خطوة على طريق الوحدة… بل لعلها، على النقيض من ذلك تماماً: تنظيم لخروج لبنان من دائرة الوحدة، ولو كانت حلماً،
وهي، بهذا المعنى، تنظيم عربي – دولي للخروج وليس لولوج دنيا الوحدة، إنها تضع تخماً سياسياً من دون أن تلغي “الحدود” الجغرافية المتوهمة أو المعتمدة لأسباب سياسيةز
وهي ليست، بالتأكيد كسباً لمسلمي لبنان على مسيحييه، فعند المصالح تتوارى العواطف فكيف بالغرائز الطائفية،
ولعل أهم ما فيها إنها باب لخروج المسلمين والمسيحيين في لبنان، معاً، من أتون الحرب الأهلية بعدما احترقوا فيه طويلاً لأسباب عدة بينها انعدام التفاهم على هذا الأمر البالغ الحساسية إلى حد التفجر.
والمعاهدة بحاجة إلى من يدافع عن محدوديتها وليس عن خطرها كاندفاعة وحدوية،
وبعض الترحيب بها ناتج عن توقيتها أكثر مما هو متصل بمضمونها،
فهي تجيء في زمن فك الارتباط بين العرب والعرب، وفي زمن الهرب من الجلد العربي ومن الانتماء القومي.
وإنه لإنجاز أن ينجح لبنان وسوريا في الوصول إلى صيغة حضارية لعلاقة “الشعب الواحد في دولتين”، في زمن ضياع المستقبل العربي والتهديد الجدي للمصير العربي، برمته، بسبب المغامرة الرعناء لحاكم العراق في الكويت.
إن “الحدود” التي رسمت في ليل العهد الاستعماري الطويل خزان لحروب أهلية لا تنتهي بين كل قطرين عربيين متجاورين، إنها شريط من الألغام والكمائن القاتلة والأرض المفخخة. والحكيم من عالجها بالروية وحسن قراءة الظرف السياسي فلم تقتله الرعونة أو “هوبرات” السيادة والاستقلال والعنفوان، بينما الكون برمته ينكمش يوماً بعد يوم “لينسجم” مع النظام العالمي الجديد لصاحبه الرئيس الأميركي جورج بوش.
فلتكن مناسبة التوقيع على المعاهدة “تظاهرة وطنية”،
ولتعامل إنها لحظة تاريخية: تطوى فيها صفحة حفلت بكم هائل من الأخطاء المدمرة، وتفتح فيها صفحة جديدة للأخوة والتعاون والتنسيق في ظل رايات… السلام الوطني، المعزز دولياً وعربياً، بإرادة اللبنانيين جميعاً الذين لم تبق بينهم الحرب “منتصراً” واحداً له حق الفيتو بقوة انتصاره الفريد!
… والعبرة في التنفيذ، من قبل ومن بعد، والمعاهدة بأهلها وليس بنصوصها، وبالقدرة على تحقيق السلام الوطني والقومي وليس بالقدرة على التفجير الذي صار من الماضي، حتى إشعار أميركي آخر سيأتي بالتأكيد من إسرائيل، إذا ما أتى.
والتهويل الإسرائيلي يظل ابتزازاً حتى تتبدل “النعم” الأميركية، ولو “صغيرة” التي أعطيت للمعاهدة، وهي تكفي لتحصينها ولو إلى حين.
ومرة أخرى: المعاهدة بأهلها.