صادقاً كالألم وقوراً كالحزن مهيباً كالخارج من رحم التاريخ كان ضيفنا الكبير الكسي الثاني، بطريرك موسكو وعموم الروسيا، هو يدعو إلى الصلاة من أجل بلاده وبلادنا معاً، وقد كانتا عظيمتين وهما اليوم في منزلة “عزيز قوم ذل”!
معدومة هي المسافة بين الدين وبين الوطن، فالدين يحمي الوطن ولا يلغيه، والكسي الثاني الأرثوذكسي الأول حتى العظم هو هو الروسي الأول وحتى العظم،
والصلاة هي، من موقعه، خير العمل من أجل الإنسان والأوطان، وليست مجرد طقس أو سنة، فبلاد الله أوطان لعباده من أهلها وهم يعيشون على أرضها ولا يهومون في الفضاء والعدم وهلوسة الدراويش.
والكسي الثاني يدرك إن بلاده مثل بلادنا تحتاج مع الصلاة إلى الكثير الكثير من العمل لكي تستعيد وحدتها وتسترجع اعتبارها وتبدأ رحلتها الطويلة والشاقة لإعادة بناء ما هدمته الحرب الأهلية الصامتة أو المتفجرة وسوء الإدارة المموه بالشعار الفخيم أو المكشوف على عينك يا تاجر، كما في لبنان.
والكسي الثاني يدرك الآن إن رعايا كنيسته من الروس يعاقبون مرة ثانية وهم يهدمون النظام الشيوعي الذي مناهم بنعيم في الأرض ثم أضاعت قيادته الطريق فانتهت به إلى جحيم مقيم “لأعظم رأسمال في الكون”: الإنسان.
.. وإذا كان النظام القديم قد حرمهم من الكرامة مقابل توفير الخبز، ولو بالكفاف، فإن النظام العالمي الجديد يفرض عليهم حرب تجويع ويعاملهم كمتسولين قد يتصدق عليهم ببعض الخبز ولكنه يتقاضى ثمنه غالياً من كرامتهم كبشر ومن كرامة وطنهم الذي كان ويبقى عظيماً.
مكلفة هي الأحلام الكبيرة، فكيف إذا أجهضت بالقمع الخارجي أم بالقهر الداخلي أم بالقصور الذاتي والعجز عن الإنجاز؟!
والأحلام ثروة الفقراء وملاذهم والمعين الذي لا ينضب لإرادة التغيير ومقاومة الظلم والظلام والانتفاض على المستعبد والمستغل، من أجل تجديد الحياة وحماية حق الإنسان في الخبز مع الكرامة.
والروس يتشابهون مع العرب في أن صدورهم أضيق من أن تتسع لأحلامهم، وواقعهم أمقت من أن تقبله عقولهم، لكن أمانيهم أبعد من أن تطالها أيديهم المغلولة بواقع التخلف والقهر والخلل في العلاقة بين الأرض وبين السماء بحيث توضع هذه في وجه تلك كأنما الشرط أن تلغي أحداهما الأخرى فتكون النتيجة أن يضيع الإنسان الذي يحتاج لتوازنه إلى الاثنتين معاً.
في الشعر بداية ثم في الرواية وفي الأدب عموماً، وهو خبز الفقراء، ارتطم الحلم بالواقع، لدى الروسي كما لدى العربي، فكان الإبداع، وكان الجهد الدؤوب من أجل التغيير، الذي يظل مشروعاً وواجباً مقدساً حتى لو أدى في بعض التجارب إلى غير ما كان يأمل منه أنبياء الثورات والمبشرون بالغد الأفضل للإنسان في كل مكان.
ملاحظة أخيرة: ليست الرأسمالية هي محققة أحلام البشر ولا هي بديل النظام الشيوعي الذي هدمه الحاكمون باسمه بأكثر مما هدمه خصومه الذين صارعوه في الأرض والأفضل والأخطر: في وجدان الناس.
الروس اليوم كغيرهم من الشعوب يبحثون، مرة أخرى، عن طريق يؤمن لبلاهم العظيمة ما تستحقه من مجد ومن دور كوني ولإنسانهم ما يحقق كرامته ويسقي شجرة أحلامه الباسقة.
والكنيسة الأرثوذكسية في موسكو وعموم الروسيا هي اليوم، ويا للعجب، حصن الفقراء، وداعية العدالة والوحدة والتقدم، وليست بأي حال واحداً من المروجين المتبرعين أو المرتزقة أو المنتفعين بالقيم الاستهلاكية واقتصاد السوق و”حقوق الإنسان” التي اختزلت في “حق” اليهودي الروسي في أن يخون موطنه روسيا وفي أن يغتصب أرض عربي من فلسطين أو ما جاورها من أرض العرب، في آن.
العرب خارج النصر…
مرة أخرى: ليست معركة “عربية” هذه التي تشهد واشنطن بعض فصول الصراع فيها بين الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس جورج بوش وبين “إسرائيل الأميركية” كقوة ضغط هائلة النفوذ داخل المجتمع الأميركي ومؤسساته الأهلية والرسمية جميعاً.
ومن السذاجة، بل البلاهة، أن يفترض بعض العرب أن بوش يخوض معركة تحرير الأرض العربية من الاحتلال الإسرائيلي أو حماية ما تبقى من الوجود الفلسطيني في فلسطين،
والوجه الآخر لهذه المعركة يكاد يضيع وينسى، ربما لأن وقائعه جارحة ومهينة لكل عربي، بغض النظر عن تبريرات الحكام أو مواقع النفوذ والهيمنة وأبواقها الإعلامية الرخيصة.
*إن سوريا مثلاً، ما تزال على قائمة الإرهاب، وواشنطن لا تل أبيب هي التي ما تزال تناقش وتفحص وتدقق وتحاول أن تستوثق من أن هذا القطر العربي الصامد إنما يحاول بناء قوته الذاتية وتوفير لقمة العيش لمواطنيه ووضع إقدامه على طريق التقدم والعدالة.
*وشعب فلسطين يعاقب كل لحظة على نضاله من أجل الحد الأدنى من حقوقه في أرضه… وبرغم الحديث العابر عن “الاعتراف بحقوقه السياسية” فإن السياسة الأميركية الرسمية تعامل الفلسطينيين وكأنهم “مجرد جالية” أجنبية على “أرض إسرائيل”،
إنها لا تعطيهم حتى مثل ما “تطلبه” لأخوتهم الأكراد في بلادهم العربية بطابعها العام وتراثها الديني وبجغرافيتها السياسية التي وحدت بين العرب والأكراد عبر التاريخ.
*وشعب ليبيا يعاقب ومنذ سنوات طويلة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ويتم التشهير به يومياً لأن قيادة ثورته ترفع راية الوحدة وتدعو إلى تحرر الشعوب وأخذها قضاياها المصيرية بأيديها.
*أما شعب العراق فتوقع عليه أقسى عقوبة عرفها التاريخ، إذ يحارب بأحدث ما أنتجه العقل البشري من أدوات الفتك والدمار بحجة إن حاكمه قد أخطأ، ثم يعاقب بذريعة إنه لم يخلع حاكمه بعد، علماً بأن الولايات المتحدة الأميركية هي المستفيد الأعظم من استمرار صدام حسين على رأس الحكم في العراق، وهي تعامله بعناية كاملة بوصفه استثمارها الأكثر ربحاً في المنطقة.
وإذا كان صدام حسين قد أساء إلى العراق، حاضراً ومستقبلاً، وأذاه بمغامرته البائسة في الكويت، فإن العقوبات التي فرضتها وما تزال تفرضها السياسة الأميركية على شعب العراق لا تنفع إلا في تثبيت صدام حسين حيث هو، ليظل أداة قهر لشعبه وأداة ابتزاز للأمة العربية كلها، وليس لأقطار الخليج فحسب.
أين يقع تأخير الضمانة الأميركية لقروض العشرة مليارات دولار التي تطلبها إسرائيل لتبني بها المزيد من المستوطنات على الأرض العربية في فلسطين، على جداول هذه العقوبة؟
وهل هي عقوبة أصلاً؟
لا ينفي هذا كون المعركة التي يخوضها الرئيس الأميركي ضد النفوذ الإسرائيلي داخل إدارته ومجتمعه مهمة، ومهمة جداً، ولكنها معركة أميركية أولاً وأخيراً، النصر فيها – إن تم – لجورج بوش المهيمن لا “المحرر” والساعي إلى تكريس هيمنته المطلقة وليس إلى تأمين “حقوق الإنسان”، لاسيما هذا الأسمر البشرة المقهور إلى حد الالغاء في موطنه: العربي.
المقدم: إلغاء القدس!
للمناسبة: أليس ملفتاً أن اسحق شامير يرد على “تحدي” جورج بوش ببناء مزيد من المستوطنات على الأرض العربية في فلسطين؟!
إنه يحاول أن يعوض هنا، وعلى الأرض، ما قد يخسره من نفوذ هناك، وبالتحديد ما زاد عن الحد المقبول من النفوذ حتى لحليف في مستوى “إسرائيل”… فالقيادة للمركز وليس للولاية، وللأصيل وليس للوكيل.
على هامش معركة “القرض والضمانة” تكاد تلغى القدس وتضيع تماماً، ونهائياً، فأرييل شارون يحاول الآن أن يزرع 26 مستوطنة في جنبات القدس العربية (ويسميها العرب كما الفرنجة: الشرقية).
أي إن أرييل شارون يحاول حسم الصراع بطريقة عملية: إذ خلال الجدل حول المستوطنات، عددها ومواقعها ومن يدفع أكلافها، ثم علاقتها بـ أو تأثيرها على “مؤتمر السلام”، تكون الضفة قد ضاعت واختفت معالمها واندثر سكانها بتحولها إلى أقلية ضئيلة معدمة وعاجزة، ومعها ومن ضمنها القدس الشريف.
كل هذه الخسائر وما زلنا على أبواب “المؤتمر”، لم يتحدد مكانه ولا زمانه ولا جدول أعماله ولا حتى “هوية” المشاركين فيه بعد،
ترى كم سيتكلف العرب من أجل الجلسة الثانية في المؤتمر؟!
وإذا كانت المقدمات قد ألغت ما تبقى من فلسطين، فكم سيلغي “السلام” الآتي من أرض العرب ومن حقوقهم فيها…
… الأرض التي لم تحتل، إن كان ثمة أرض عربية غير محتلة؟!
جزر لبنان أغلى!!
الوفد الرئاسي اللبناني يشعر بسعادة غامرة لنجاح رحلته الأميركية ولقاءاته العديدة في نيويورك مع العديد من ممثلي الدول، كبيرها والصغير، ممن يحرص لبنان على أطيب العلاقات معها.
لكن أعضاء الوفد يزهون باللقاء التاريخي الذي جمعهم والرئيس الأميركي جورج بوش ومنحهم تلك الصورة المجيدة التي ستعتز بها ذريتهم الصالحة والتي يبدون فيها جلوساً مع رئيس الكون.
على إن أكثر ما أفرح الوفد الرئاسي إنه استطاع اختلاس عشرين دقيقة إضافية من وقت “القيصر” الجديد، وهذا دليل إضافي على “التقدير العالي” و”الاهتمام البالغ” الذي يوليه الرئيس الأميركي للكيان اللبناني الخالد.
ويبتسم أعضاء الوفد، الآن، وهم يقولون:
-نظرية الرئيس الحص عن البلاد التي تنتج الجزر غير صحيحة، بدليل إن رئيس الكون منحنا، نحن وفد لبنان، ما يزيد عن خمس وأربعين دقيقة في حين إنه لم يمنح أمير الكويت (التي تنتج النفط لا الجزر) إلا خمس عشرة دقيقة فقط لا غير!
… وهذا كله من رضا الله والوالدين، والحمد لله من قبل ومن بعد على نعمه جميعاً، إنه على كل شيء قدير.
“المحرر” بخيل مع من “حررهم”، حتى بالوقت!
سبحانك اللهم، ولا اعتراض على إرادتك التي لا راد لها… فلتكن مشيئتك كما على السماء كذلك على الأرض. آمين.