نادرة هي الحالات المشابهة لما جرى في الجزائر خلال الأسابيع القليلة الماضية، فقد ظلت رئاسة الدولة بضاعة كاسدة أو لعبة مفخخة مطروحة على الرصيف لا تجد من يُقبل عليها أو يقبل بها.
… حتى وقعت “القرعة” على “الفدائي” الأمين زروال فقال: أنا لها! واندفع خارجاً من قبعة الجنرال المتقاعد إلى موقع “الرئيس” مع وعيه بأن الطريق ملغمة وبأن كرسيه قد يكون أقصر طريق إلى … الجنة!
ولا شك أن الأمين زروال يحتاج إلى كثير من الدعوات الصالحات ومعها قبعات زملائه الجنرالات جميعاً (وجنودهم)، لكي يتمكن من أن يلتفظ كرة النار بنجاح فلا تحرق بلظاها المستعر المزيد من العباد وموارد البلاد.
لقد عينه “المجلس الأعلى للأمن” رئيساً على دولة عجز هو نفسه عن قيادتها، وإن كان نجح في حماية ما تبقى من المؤسسة العسكرية ربما لكي يكلفها الآن بهذه المهمة شبه المستحيلة.
ولعل الثائر المتقاعد علي الكافي هو أكثر من يستحق التهنئة، فهو لم يعرف فقط متى يدخل إلى المسرح، ولكنه عرف – وهذا هو المهم – متى يخرج، بإرادته وبسلامته وبرصيد من التقدير أنه حاول جهده، فلما لم يستطع تنحى ولم يهدم الهيكل لكي يبقى أو لكي لا يبقى غيره.
من السهل أن يقال الآن: لقد عاد العسكر.
لكن الحقيقة أن العسكر لم يخرجوا أبداً لكي يعودوا.
وهم لم يدخلوا مع علي الكافي، بل قبله بكثير، ولعل الموعد الصحيح لدخولهم هو أول انقلاب شهدته الجزائر المستقلة في 19 حزيران عام 1965، أي بعد أقل من سنتين على قيام الدولة الوطنية فيها.
على امتداد ثلاثين سنة حكم “عسكر الثورة”، من هواري بومدين إلى الشاذلي بن جديد، وحين اضطر هؤلاء إلى الاستعانة برجل “تاريخي” من القادة السياسيين للثورة فاستعادوا محمد بوضياف من منفاه في المغرب، عجزوا عن حمايته فسقط صريع الصراع بين “الجنرال” و”الشيخ”.
ها هو “الجنرال” شخصياً، على قمة السلطة.
صحيح أنه متقاعد، ولكنه ما ترك الجيش إلا إلى وزارة الدفاع، وهو قد اشترط ليكون رئيساً أن تبقى وزارة الجيش (الدفاع) في عهدته.
وهو قد جاء لكي يواجه “الشيخ” بعدما انقطع الحوار، وتعذرت إعادة وصله بينهما، فأدخل الجنرال الشيخ السجن الصغير، ولكنه وجد نفسه من بعد في سجن كبير، ولم يعد معروفاً من يسجن من، ومن يستطيع “تحرير” من.
الكل في الشارع الآن.
“الشيخ” في وسط الشارع، والجنرال يطوّقه، ثم سرعان ما يكتشف أنه هو داخل الطوق، وأن الأزمة أخطر بكثير من أن تحلها الدبابات والحواجز والجند لموهة ملابسهم والمقنعة وجوههم، بغير أن يفيد ذلك في استعادة الأمان.
إنه طور جديد من أطوار الصراع المفتوح بين القبعة والعمامة، بين الدبابة والتاريخ، بين الحاضر والماضي على المستقبل.
وإنه لمن سوء الطالع أن يكون بين مبررات ترئيس زروال فشل الدعوة إلى الحوار، وهو حوار كان مقدراً له أن يفشل، بل هو أصلاً مستحيل، فكيف يمكن أن يسمى تبادل الاتهامات بين السجين والسجان حواراً والحديد البارد يفصل بينهما؟!
والأسوأ أن يعتبر البعض مجيء الجنرالا بديلاً من الحوار، وأن العودة إلى سياسة العصا قد تنجح حيث فشلت محاولات الالتفاف على الشيخ.
إن فشل مؤتمر الحوار يوحي وكأنه سيكون على “الرئيس” – الجديد – أن يواجه أكثرية معترضة تضم إضافة إلى “الشيخ” حزب “الحرس القديم” وحزب الغالبية من البربر.
لكأنه سيواجه “المسلمين” و”العرب” و”البربر”، طالما عجز عن شق صفوفهم وعن استمالة بعضهم لمواجهة البعض الآخر.
وقد يكون الجيش أقوى قوة منظمة في الجزائر، لكن قوتها بالتأكيد ليست مطلقة، لاسيما متى اضطر إلى مواجهة جماهير شعبه.
فالجيش أيضاً إنما يتكون من “المسلمين” و”العرب” و”البربر”.
ثم أن الجيش قد استنفد هامش المناورة خلال السنوات القليلة الماضية، ووقف عاجزاً عن إنجاز ما لا قدرة له على إنجازه، أي الحل السياسي لمعضلة هي بطبيعتها كما بتفاصيلها معضلة سياسية، لها امتداداتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المدفع قد يمهّد لحل سياسي، لكنه لا يصنعه.
وإذا كان “الشيخ” يحلل ويحرّم، ولا يعتمد الحوار لغة في العادة، فإن الجنرال ينفذ عادة ولا يقرر، فإذا ما صار هو المقرّر لم يرغب في حوار لم يألفه ويعرف أنه لا يتقنه ويخشى دائماً أن يكون ذهابه هو شرط النجاح فيه.
حتى الله الجزائر،
فكثيرون يتخوفون أن يكون تعيين الرئيس الجديد توغلاً نحو الحرب الأهلية، بعدما “فشل” المدنيون في حسم الموقف، وبعدما ضاعت فرصة فتح الحوار بين الأطراف المتصارعة والتي لا يملك أي منها حلاً حقيقياً للجرح الجزائري المفتوح.
وليس التخوف من نقص الكفاءة السياسية عند الجنرال امتداحاً لكفاءة “الشيخ” السياسية.
ولأن كليهما عاجز فقد بقيت الأزمة في الشارع بلا حل، في حين لجأ كل منهما إلى أسلحته جميعاً.
وتعيين الجنرال، بعد انسحاب “المدني” عبد العزيز بوتفليقة من الميدان يوحي بواحد من أمرين:
1 – إما أن العسكر قرروا أن يتولوا الحكم مباشرة، وطلبوا ستارة مدنية، فأبى بوتفليقة الرجل المجرب وصاحب التاريخ والمعتد كثيراً بنفسه، أن يكونها.
2 – وإما أن العسكر قد استغنوا بأنفسهم عن الجميع، وقرروا أن يتولوا الأمر كله ولو فوق بحر من الدماء.
وفي الحالين لا بد من البحث عن اليد الأجنبية، عن “المحرض” الفعلي لكل من الطرفين أو للطرفين معاً.
فثمة من زين للجيش أنه وحده الحل، ووعده بأنه سيكون إلى جانبه وسيحميه أقله في الخارج.
تماماً كما وجد من قبل من زين لجبهة الإنقاذ الإسلامية أنها تستطيع أن تنفرد بحكم الجزائر متجاهلة القوى جميعاً، والجيش على رأسها.
والحرب الأهلية أيضاً تحتاج إلى طرفين، على الأقل، مرة أخرى، حتى الله الجزائر.