قد تكون المفاوضات فاصلاً بين حربين،
وقد تكون المفاوضات حرباً بحد ذاتها، وتنتهي – كما سائر الحروب – بغالب ومهزوم، إذ تمكن الظروف الدولية والإقليمية والذاتية للطرف الأقوى فرصة لفرض اتفاق إذعان على الطرف الأضعف،
وقد تتلاشى الحاجة إلى نتائج سريعة للمفاوضات، فتترك حتى تشيخ وتذوي في صمت… حتى إذا تبدلت الظروف وأعادت التطورات المستجدة المشكلة الهرمة إلى المسرح من باب النار، نفخ في المفاوضات فعادت إليها الحياة، وأحيطت بكل الرعاية الممكنة حتى تعطي أكلها ثماراً شهية.
حتى الساعة ما تزال المفاوضات مطلوبة ولها غرض تؤديه،
من هنا إن كل جولة بائسة تنتهي بالاتفاق على موعد جديد لجولة أخرى.
وحتى الساعة ممنوع قطع المفاوضات، بقدر ما هو متعذر دفعها في اتجاه نتائج ملموسة،
فلا خوف العرب من ماضي الهزيمة كاف ليقنعهم بتنازلات تكاد تتساوى مع شطب أنفسهم من التاريخ والجغرافيا،
ولا خوف الإسرائيليين من المستقبل الغامض في ما يختزنه من احتمالات مؤثر إلى حد يدفعهم إلى شراء “سلامهم” بثمن غال (في نظرهم) كالانسحاب من الأراضي العربية التي احتلوها بالسيف.
السيف… تلك هي مشكلة المفاوضات،
فلا العربي يملك العزم والإرادة والتماسك وعافية الزند القادر على استخدام السيف لاستخلاص حقه،
ولا الإسرائيلي يملك غير السيف سبيلاً للتفوق وقهر عدوه، لذا فهو يعرض على العرب “سلاماً” في ظل سيفه المشرع،
ثم إن الإسرائيلي يستشعر الآن مزيداً من القوة، فالضعف العربي بئر بلا مقر، كما أن المناخ الأميركي قد تحول بحيث زاد من قوة الإسرائيلي فلم يعد “مضطراً” للقبول بالمفاوضات، إلا إذا كانت مجرد وسيلة لتحقيق المطالب التي عجز عن استكمال تنفيذها بالحرب.
والنصائح الأميركية تتوالى، الآن، على دمشق، تطلب إليها “الاعتدال”، كأنما مطالبة المحتل بالانسحاب من الأراضي التي احتلها بقوة السلاح تطرف مطلق!
فصحيفة نيويورك تايمز تقول: “إن مفتاح الحل يكمن في الاعتدال السوري وليس في الضغط الأميركي، وليس مطلوباً من الرئيس الأسد التخلي عن مبدأ السيادة، وإنما أمامه اليوم فرصة مهمة لكي يحقق هدفاً وطنياً كبيراً، فهل يمكنه أن يقول “لا”…”
وطريفة هي المعادلة التي تعرضها الصحيفة الأميركية: تنازل عن أرضك فذلك لا يعني إسقاط السيادة عنها، بل هو تحقيق لهدف وطني لا تستطيع له رفضاً!!
وتوضح صحيفة “واشنطن بوست” مقاصد وصيفتها التي تعكس، عادة المطامح الصهيونية، بالقول: “إن سوريا مطالبة بمبادرة نحو إسرائيل والعمل على إزالة الخوف والتردد لدى إسرائيل، بهدف التوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين”.
وتمضي “الواشنطن بوست” أبعد من ذلك إذ تعتبر أن “سوريا بحاجة ماسة إلى دعم إقليمي ودولي متزايد مفتاحه الاتفاق مع إسرائيل”.
لكأنها تلوح بأن غياب التضامن العربي لن يعود إلا عبر “الاتفاق” مع إسرائيل، ولو كان اتفاق إذعان!
لكأنها تلوح أن بعض حكام العرب قد ذهبوا بعيداً جداً مع إسرائيل، بحيث صاروا قوة إضافية لها على حساب أشقائهم وفتحوا ثغرة خطيرة في جدار البيت العربي… بل لعلهم هدموا ذلك الجدار!
وربما لهذا يستشعر الرئيس المصري حسني مبارك كل هذا القدر من الخوف على المفاوضات فينادي بضرورة استمرارها وبعدم توقفها لأي سبب كان.
لكنها مفاوضات على اللاشيء
ومفاوضات، بما ظهر منها في جولاتها السبع حتى الآن، بلا أفق إلا بمقدار ما ينهار الموقف العربي، فتنتفي الحاجة إليها لأن إسرائيل تكون قد حققت ما تطلبه بغير عناء التفاوض!
ولن تكون الثامنة بأسعد حالاً من السابعة،
وكذلك ستكون حال الجولة الثامنة بعد الألف..
وعسانا لا نتحسر بعد سنين على السنة الأولى من هذه المفاوضات العبثية، باعتبارها كانت الأدسم والأعظم فائدة والأهم أثراً على السلام… المزعوم!