لن يستطيع بيغن أن يعوض بسعد حداد خسارته شارون، ولن يتعزز موقع حكومته وسياسته، كثيراً بورقة الابتزاز الجديدة – القديمة هنا،
فالأزمة في داخل الكيان الإسرائيلي، بمؤسساته السياسية والعسكرية، أعمق بكثير من أن يحلها أو يسهم في حلها استخدام ضابط منشق على جيشه وخارج على مسقط رأسه.
وبيغن يعرف جيداً إنه، برغم احتلاله للجنوب وما بعده وصولاً إلى بيروت وما بعدها، لم يكسب إلا الجنوبيون ولا البيروتيين ولا أهالي البقاع ولا حتى أولئك الجبليين، الذين حاول أن يستخدمهم وحاولوا أن يستخدموه ثم توقفت اللعبة بانكشافها للأطراف جميعاً.
فالجنوب اليوم، وبرغم كل مظاهر “التطبيع” واللافتات الإسرائيلية ومكاتب “الموساد”، أكثر عداء لإسرائيل منه في الماضي،
وليس من العقل أو المنطق أو السياسة في شيء أن تؤخذ بعض نماذج التعامل الاضطراري أو الاتقائي وكأنها نتائج ثابتة لنجاح سياسة المحتل وجيشه.
والجنوب اليوم، وبرغم كل مظاهر الأمر الواقع، أكثر تماسكاً – بالمعنى الوطني – منه في أي يوم مضى… ويكفي للتدليل على هذه الحقيقة الناصعة إن المواطنين تجاوزوا القيادات السياسية التقليدية بمواقفهم العملية من الاحتلال ونتائجه، وتجاوزوا حساسيتهم هم وعصبياتهم وتحزباتهم وقرروا مواجهة مصيرهم إرادة واحدة ويداً واحدة عبر الاندفاع الجماعي نحو الدولة والشرعية وكل ما يؤكد صحة الانتماء إلى الوطن ويبقيه فيهم بمقدار بقائهم فيه.
وكذلك الأمر في الجزء المحتل من البقاع، حيث يتأكد يومياً فضل قوات الاحتلال في “احتواء” المواطنين أو كسبهم إلى جانبها، ومن ثم إلى جانب سعد حداد، بعيداً عن دولتهم وعن سلطتهم الشرعية المغيبة بقوة الاحتلال.
فلا “روابط القرى” أو “المجالس المحلية” صارت حقيقة سياسية، ولا “الحرس الوطني” صار “مؤسسة” عسكرية أو شبه عسكرية، برغم كل ما بذلته أجهزة المخابرات الإسرائيلية من مجهودات حثيثة ودؤوبة ومكلفة.
وبيغن يعرف جيداً إنه ، برغم سيطرته العسكرية الكاملة على المنطقة التي يسميها “الحزام الأمني الضروري لسلام إسرائيل”، فإنه أعجز من أن يحول هذه المنطقة إلى دولة أو دويلة لحداد أو لغيره،
فبرغم كل ما حققه بيغن، ومعه شارون وسائر الجنرالات ، فهو لم يصبح بعد صاحب القرار بإنشاء دول جديدة، خصوصاً في منطقة بالغة الأهمية وهائلة الثراء وشديدة الحساسية والتأثير على ميزان العلاقات الدولية، كمنطقتنا العربية.
صحيح إنه يحرك السكين داخل أحشاء الوطن فيؤلمنا أعظم الألم، ويفتح لنا مزيداً من الجراح والمواجع فتستنزف بعض ما تبقى من عافيتنا وقوانا،
لكن ذلك لن يؤدي إلى استسلامنا لسبب بسيط: إن الاستسلام هو النهاية، هو الانتحار بعينه، للوطن كما للدولة وشرعيتها وعهدها الوليد.
إن بيغن يحاول أن يبتزنا ليأخذ أقصى ما يمكنه في أقصر وقت ممكن، وقبل أن تطرأ تحولات أساسية على الموقف تخرجنا من الدائرة المقفلة والضيقة للهزيمة التي منينا بها في حرب لم نخضها بالقدرات الكاملة المفترضة، أو التي كان ينبغي أن تتوافر.
والتحولات متوقعة وأسرع مما يتصور الكثيرون، محلياً وعربياً ودولياً.
على إن أهم هذه التحولات وأخطرها أثراً هي تلك التي تتم على الصعيد الداخلي: من تأكد سلطة الدولة ووجودها والتفاق الناس حول مشروعها. إلى سقوط الأوهام لدى بعض القوى والفئات حول طبيعة العلاقة مع المحتل الإسرائيلي.
فالدولة تستطيع الاطمئنان، كلية الآن، إلى أن الأكثرية الساحقة من مواطنيها، مع مشروعها وهذه الأكثرية تمحضها مزيداً من الثقة والدعم والالتفاف كلما توضحت جدية هذا المشروع وجذريته وهويته الوطنية (أي غير الفئوية بالمعنيين الطائفي والحزبي).
أما أولئك الحمقى الذين تنكبوا أسلحتهم واندفعوا إلى الجبل بوهم أن “حليفهمط هناك سيسلمهم البلاد وينسحب أمام “سلطتهم” مشكوراً بعدما “حرر” الأرض لحسابهم، فقد دفعوا ثمن هذا الوهم غالياً (ونتمنى أن يكون كافياً)، ولم يعد لهم عذر في ادعاء الغفلة أو النشوة بخمرة النصر!
ومما يلفت أن أخبار الجنوب تكاد تنذر بتكرار سقطة هؤلاء في الجبل، حتى لقد بلغ الأمر بالناس أن يلجأوا إلى سعد حداد ليحميهم من “القوات اللبنانية”!!
وبالتأكيد فإن موقفاً حاسماً للدولة يساعد على إنقاذ من يستحق الإنقاذ من هؤلاء،
والموقف المطلوب من الدولة هو: عدم التراجع أمام الابتزاز الإسرائيلي، والاستمرار في الضغط لضمان موقف أميركي مقبول في المفاوضات، والاستمرار في النهج المؤكد إن الدولة التي يعاد بناؤها الآن هي دولة الوطن كله والمواطنين جميعاً.
فالوضع الداخلي الإسرائيلي الذي لم يستطع توفير الحماية لشارون في موقعه، يفترض أن يسرع عملية الاستنهاض الوطني اللبناني بما يكفي لإسقاط أي شكل من أشكال الحماية عن المفرطين بالتراب الوطني أو بالكرامة الوطنية، أو بالسلامة الوطنية، سواء أكانوا على غرار سعد حداد أم على غرار أولئك الذين قتلهم الوهم على طريق الجبل… جبل لبنان!