يبنما نحن منهمكون في النقاش حول الوفاق وكيف ومتى يكون، وهل يكون أولاً والجنوب ثانياً، أو العكس، تمضي الخطة الأميركية – الإسرائيلية في طريقها، نحو أهداف تتجاوز في خطرها وضخامتها تصورات المنهمكين في النقاش جميعاً،
وبينما سائر العرب منهمكون في النقاش حول التضامن وكيف ومتى يكون، وهل يكون بالافتراق عن السادات والصمود أمام منهجه والتصدي لهذا المنهج بقصد إحباطه، أو يكون بالحرص على وحدة الصف والتجاوز عما سلف باعتبار أن ما كان قد كان وعفا الله عما مضى ولنبدأ صفحة جديدة، والمهم هو المستقبل لا الماضي الخ..
بينما سائر العرب منهمكون في هذا النقاش الفلسفي المعقد تنبت مستعمرات ومستوطنات إسرائيلية جديدة، في الأرض العربية المحتلة وتتكاثر كما الفطر، ويقرر بيغن أن يتقاعد – متى تقاعد – في واحدة منها بسيناء ليموت راضياً مرضياً،
ويبنما دمشق تنتظر جواب بغداد، وبغداد تطالب بجواب دمشق – أولاً – لكي ترد من ثم بنعم أم لا،
وبينما بعض السعوديين يقول: ما شاء الله، وبعضهم الآخر يقول: أعوذ بالله، ينقسم العرب في التفسير قسمين فيقول الأولون: الحمد لله، بينما يهز الآخرون رؤوسهم وهم يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله،
وبينما إمارات الخليج تعبر عن موقفها بصمت رافض يراه أصحاب الخبرة في فك الطلاسم البدوية قبولاً معلقاً… في انتظار جلاء الموقف،
بينما يجري هذا كله لنا في بلادنا يعود كارتر إلى بلاده مطمئناً إلى المصالح الأميركية كلها: لدى العرب كما لدى إيران، ومع مصر السادات كما مع إسرائيل بيغن، وفي سيناء كما في الضفة الغربية وغزة!!
… والمواطن العادي يتساءل وهو يشهد الحركة في هذا الجانب والجمود في الجانب الآخر، الجانب الذي قرر الصمود والتصدي سياسة ونهجاً معلناً: الام الانتظار، وماذا تراهم ينتظرون، وحتام يتركون المبادرة في الأيدي الملوثة؟!
إن الجمود في هكذا ظروف يخدم السادات (وقبلهما كارتر وبيغن)
والجمود مرضى خبيث يزحف ببطء فوق مشاعر الناس فيطفئ لظاها ويحول جمرها إلى رماد ويدفع بهم – بخطوات واسعة – نحو الاستسلام للأمر الواقع،
وإذا كان عرب الصمود قد علقوا آمالاً على جولة الرئيس الجزائري هواري بومدين في المشرق، فإنهم يتوقعون أن تكون خاتمتها الدمشقية “حدثاً”، بمعنى أن تتحرك مسيرة الصمود والتصدي لتفتح نوافذ في النفق المعتم الذي دفعت سياسة السادات الأمة العربية إليه،
لقد قبل ا لناس بما تحقق في طرابلس بوصفه خطوة أولى وحدا أدنى سرعان ما سيتصاعد تدريجياً لينقل عرب الصمود من خانة رد الفعل إلى خانة الفعل والمبادرة الشجاعة،
ومع التقدير للظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة فإن الناس يتوقعون مزيداً من الخطوات الجدية والعملية والمحددة،
وينتظرونها، أساساً، من أطراف قمة طرابلس، بمن في ذلك العراق بل ولاسيما العراق الذي لا غنى عنه في أي جبهة للصمود، كما أن لا ضمان له ولا حماية لأمنه الوطني نفسه بغير مثل هذه الجبهة،
وإذا كان صحيحاً إن كل طرف من أطراف الجبهة نفسها يحتاج إلى دعم، فالصحيح أيضاً أن بلداً كالعراق لا يقل حاجة إلى الدعم عن سائر أطراف الجبهة،
إن أهمية جبهة طرابلس كونها رداً يحمل ملامح “قومية” على جريمة الخيانة القومية التي ارتكبت بحق الأمة،
ولا قوة تحمي أي قطر عربي من أخطار الردة والتآمر الا التلاحم القومي، فمثل هذا التلاحم يحمي – بالتبادل – كل أطرافه: يحمي سوريا بقدر ما يحمي العراق، ويحمي الجماهيرية العربية الليبية بقدر ما يحمي الجزائر، ويحمي الثورة الفلسطينية بقدر ما تحميهم، هي، وتزكيهم جميعاً،
والناس، العاديون من الناس ، يعرفون أن مثل هذه الجبهة قد تخدم الأنظمة القائمة في هذه الأقطار بكل ما لهم عليها من ملاحظات، لكنهم يعرفون – في الوقت نفسه – إن انبثاقها كحقيقة سياسية جديدة سيكون عامل تأثير أكيد على طبيعة هذه الأنظمة باتجاه تصليبها وتصحيح بعض الاتجاهات السائدة في داخلها،
والناس لا يطلبون المعجات ولا يطلبون المستحيل: إنهم يطلبون أن يعي الحكام العرب ما يدبر للأمة برمتها وضمنها بالطبع هذه الأنظمة التي لن تكون صالحة للبقاء والاستمرار في ظل الإمبراطورية الإسرائيلية العتيدة،
والناس لن يقبلوا من حكامهم أن يظلوا يتقاتلون إلى الأبد من أجل أوهام السلطة بينما السلطة الفعلية والسيادة الفعلية على الوطن العربي الكبير برمته تنتقل يوماً بعد يوم إلى تل أبيب أولاً وإلى واشنطن ثانياً،
إنه العصر الإسرائيلي،