جاءت الشهادة بقيمة المعاهدة من العدو قبل الصديق،
لم تتأخر إسرائيل في إعلان موقفها… المتوقع! ولقد اختارت أن تعلنه بلسان وزير الحرب، تحديداً، وليس بلسان وزير الخارجية، مثلاً، أو بلسان “ناطق رسمي” باهت اللون والصفة.
وكان منطقياً أن يعرب موشي أرينز عن “قلقه”، وأن يرى في المعاهدة “عملاً خطيراً على إسرائيل”، من باب التهويل أو الابتزاز أو محاولة التعطيل، أو كل هذه معاً.
والموقف الإسرائيلي هو من حيث المبدأ، المعيار الأسلم لقياس الصح والخطأ في التطورات العربية، فما تسكت عنه هو المضر بالعرب وما تعترض عليه أو تهاجمه هو الملائم لمصلحتهم والمفيد لمستقبلهم.
وإسرائيل بتكوينها معادية لأي قدر من التقارب بين أي عربيين، ولو كان أولهما في موريتانيا والثاني في حضرموت، فكيف إذا ما اتصل الأمر بقطرين متجاورين ومتكاملين ولهما مواصفات “شعب واحد في دولتين” وكلاهما يقعان على تخوم فلسطين ، مثل لبنان وسوريا؟
من هنا لم تتوقف إسرائيل، مثلاً، عند نصوص “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق”، وهي المصاغة بعبارات مطاطة جداً وبكلمات قد تعني كل شيء وقد لا تعني شيئاً،
لقد تعاملت مع المبدأ، مع المغزة السياسي للمعاهدة، مع حقيقة إنها خطوة جدية على طريق تقنين العلاقات الطبيعية بين البلدين التوأمين، وبمعزل عن كون هذه المعاهدة تقصر عن الأمل والطموح بل وعن الواقع القائم، وهو يتجاوز النصوص وأيما تجاوز.
أما الولايات المتحدة الأميركية، وهي “التي تتابع بدقة” تطور الوضع في لبنان، وتعلن بلا كلل دعمها لاتفاق الطائف وطريقة تنفيذ نصوصه وترعى “روحه” المباركة، فقد جاءؤ رد فعلها متحفظاً برصانة، مع التوكيد إنه ليس من أهدافها “أن تهيمن سوريا على لبنان”.
ليس في القاموس الغربي، في ما يعني العلاقات بين العرب، إلا تعابير من نوع “الهيمنة” و”الاحتواء” و”الابتلاع”.
أما أن تهيمن الولايات المتحدة الأميركية، فعلياً، على العرب بمجموعهم، فهذا حقها الذي لا يناقش،
وإما أن “تهيمن” إسرائيل بقوة احتلالها المعزز بالمدد الأميركي غير المحدود على الإرادة العربية، وعلى مساحات شاسعة من الأراضي العربية، إضافة إلى فلسطين، فهذه مسألة فيها نظر!.
لا شك في أن المعاهدة إنجاز،
لكن قيمة هذا الإنجاز تنبع من مناخ الهزيمة العربية شبه الشاملة الذي يهيمن على الحاضر ويلقي بظله الأسود على المستقبل العربي.
ففي زمن الهزيمة والحروب الأهلية العربية ليس أمراً بسيطاً أن ينجز بلدان عربيان خطوة تؤكد مصالحهما المشتركة، مهما كانت محدودة،
فالوحدة العربية تعني حرباً إسرائيلية على الوحدويين،
والتقارب يعني “استعداء” لإسرائيل والرد عليه لا يتم إلا بأن يؤكد العرب عموماً “إيمانهم” بالانفصال والتباعد والتباغض كقدر لا راد له.
إن النموذج المطلوب والمرغوب ، إسرائيلياً، هو الاقتتال العربي،
ولقد كانت الحرب الأهلية في لبنان، بما هي في جانب منها حرب أهلية عربية، واحداً من مواسم العز الإسرائيلية،
وبالتأكيد فإن إسرائيل عملت وسعها لتأمين استمرار هذه الحرب، ولا يسعدها أن تجدها الآن تنتهي، فكيف بها وهي تنتهي بمعاهدة أخوة لبنانية – سورية، ومن دون أن يستدعي ذلك تورط طرف عربي آخر (والفلسطيني تحديداً) في تجديد الحرب!
في ظل هذا المنطق لا بد من استغراب هذه المماحكات التي ترافق إقرار المعاهدة في المؤسسات الدستورية، تمهيداً لإبرامها،
فالمعاهدة أقل من حق لبنان وأقل من واجبه،
والمعاهدة أقل من حقوق سوريا وأقل من واجبها،
وإذ كان “الوحدويون” في لبنان وسوريا قد ارتضوا بها، باعتبارها الحد الأدنى من الأدنى، تقديراً منهم للظروف الدولية والإقليمية السائدة، فهذا لا يعني بأي حال إن آمالهم تقف عندها أو إنهم يرون فيها إنجازاً تاريخياً.
ومع التقدير للدور الشخصي المتميز الذي لعبه الرئيس الياس الهراوي في تحقيق هذه الخطوة المهمة، فإن الأمانة تقتضي بأن ننظر إليها باعتبارها خروجاً من الدائرة الجهنمية للحرب الأهلية، وهي بهذا مكسب “لبناني” أكثر منه سوريا (بالمعنى الضيق للتعابير الكيانية).
ويعرف المماحكون والمطالبون بشطب هذه الكلمة أو تلك، وإعادة تحديد موقع “الفاصلة” هنا أو هناك، إن المعاهدة مكسب لبناني، إذ إنها تفتح صفحة مستقبل ما بعد الحرب… ولكنهم “يناضلون” حتى لا يقال إنهم “سلموا” بأبسط ما تفرضه حقائق الحياة والوقائع السياسية القائمة.
أيعقل أن يتشدد روجيه ديب، مثلاً، أكثر من الناطق باسم الخارجية الفرنسية، وأن يطالب جورج سعادة، بما لم يطالب به الناطق باسم الخارجية الأميركية؟!
أهي “عنزة ولو طارت” ، أم هو ارتهان لمناخ الحرب الأهلية التي قرر “البعيد” إنها قد انتهت، وما زال في لبنان من يعيش في ظلها ويصعب عليه أن “يحرر” نفسه من موجباتها الكريهة؟!
وحرب الكلمات لن تبدل شيئاً في حقائق الحياة الراسخة.
… وفي انتظار أن يرتاح “فرسان” الكلمات المبهمة، يتسلى اللبنانيون بالأيام التلفزيونية الطويلة حول تنظيم… الفرجة على التلفزيون.