طلال سلمان

على الطريق الإدانة جماعية و”البراءة” فردية!

لكل زمان دولة ورجال، ولكل “نظام عالمي” لغته ومفرداته وأصول المخاطبة فيه وفقاً للحقائق الجديدة،
في “النظام العالمي الجديد” لصاحبته الولايات المتحدة الأميركية سحبت من التداول كل “العملات القديمة” المنتمية إلى العهود “البائدة”، عهود “عالم القطبين” أو الجبارين و”الحرب الباردة” و”الحروب الصغيرة” و”الخطوة خطوة” الخ.
سحبت كلمة “الثورة” مثلاً، وأنزلت كبديل منها كلمة “الإرهاب”، وفي بعض الحالات، ولاسيما في أميركا اللاتينية استبدلت بتعبير “تجارة المخدرات”!
ومع “الثورة” تم طمس كلمات مثل “التحرر”، حيثما وردت، منفردة أو في سياق جملة مثل “حركة التحرر الوطني”، ومثل “الاشتراكية” وسواء أكانت عملية (أي ماركسية لينينية) أو “ديمقراطية” أو حتى منسوبة إلى “سان سيمون” طيب الله ثراه.
وفي مجال الإشارة إلى قوى الهيمنة والطغيان والطاغوت والاستعمار بنوعية القديم والجديد، تم تهذيب الألفاظ وتشذيب مواقع الاستخدام، فاختفى تعبير “الأميركي البشع” وتعبير “أيها المارينز عودوا إلى بلادكم”، وتم تعميم صورة جديدة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية باعتبارها مؤسسة شرعية مكلفة بإعادة صياغة الأنظمة والحكومات (والأديان والطوائف وصولاً إلى القبائل والعشائر ببطونها والأفخاذ) بما لا يجافي الذوق العام ولا يشوه النظام العالمي الجديد!
ومع التنويه بمجرد انعقاد مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية تلبية لدعوة عاجلة من الجماهيرية العربية الليبية، فمن الضروري الإشارة إلى التهذيب الجم الذي تعكسه لهجة بيانه الختامي، الذي جاء مصاغاً بلغة “يا ملك الزمان جئنا نراجعك بشأن الفيل…”
الطريف إن بين المسؤولين العرب من رأى في هذا البيان شيئاً من التطرف وكاد يتبعه بتوضيح يبين فيه إن القصد من الحديث عن “الفيل” ليس الشكوى من عبثه وتخريبه وإنما المطالبة له بحقه في “رفيقة درب” أو “شريكة عمر” تؤنس وحدته وتمنحه فرصة الإنجاب وإنعاش البلاد بذرية صالحة!
طبعاً هناك من رفض تلبية الدعوة أصلاً، وهناك من حضر “مجاملة” ومن قبيل القيام بواجب كريه وثقيل على النفس، ولعل البعض قد حضر فقط لأنه لا يستطيع أن يغيب، وبالتأكيد فإن الأكثرية كانت تفترض إنها إنما تؤدي خدمة للسيد الأميركي بأن تتولى عنه مهمة “الشرطي” فتبلغ مذكرة الجلب إلى معمر القذافي بعد أن تعده بتوكيل محام شاكر يخرجه من الأمر “مثل الشعرة من العجين”!
ولولا الدور المتميز الذي لعبه الرئيسان السوري والمصري في إثارة الموضوع، ثم في تبني الدعوة، مما أحرج الآخرين، لما لقيت الدعوة الحد الأدنى من التجاوب ولاعتصم المسؤولون العرب بالصمت بينما الغرب يطبق بحصاره القاتل على قطر عربي آخر، ساحقاً ما تبقى من الإرادة أو من الكرامة العربية.
اللافت إن السادة الوزراء من أهل “الاعتدال” قد أصروا فنجحوا في شطب كلمة “رفض”، المحرمة دولياً (!!) من البيان المكتوب لاسترضاء خاطر الأميركيين (وسائر الغربيين)، كما حذفوا أي عبارة توحي من قريب أو بعيد بالانحياز إلى ليبيا أو تبني موقفها، أو تساوي بين هذا القطر العربي، الصغير وبين “السيد الأميركي” الجبار!
برغم ذلك فقد امتنعت السعودية ومعها الملزمون بقيادتها من الخليجيين عن الموافقة على البيان الذي يمكن أن تتبناه أية جمعية خيرية أو أية رابطة من روابط الدفاع عن البيئة.
وموجع أن يتم التوجه، مرة أخرى، إلى مجلس الأمن وإلى الرئيس “العربي” للجمعية العامة للأمم المتحدة بينما هو يتخذ موقفاً نافراً ونابياً من أهم القضايا العربية المعاصرة عبر حديثه عن فهمه الخاص للقرار 242 وعلاقته بمبدأ الأرض مقابل السلام ومدى إلزاميته للأطراف القابلة به.
ومفهوم أن يتصرف المسؤولون “العرب” شأنهم شأن سائر المسؤولين في هذا العالم ذي القطب الأوحد كمغلوبين على أمرهم ومسلمين بالهيمنة الأميركية على المصائر عموماً، ولكن بشرط أن يضمنوا سلامة أنفسهم (ومواقعهم) أولاً، ثم أن يظلوا على قدر من الإحساس بالذات بحيث تضطر الإدارة الأميركية إلى استشارتهم! أو مراعاة أوضاعهم الدقيقة أو الوفاء بالحد الأدنى من التزاماتها تجاههم طالما إنهم قد أعطوها كل شيء وعملوا في خدمة مصالحها بكل طاقاتهم وأرصدتهم التي كانت ذات يوم هائلة بل وفلكية بأرقامها المتعددة الأصفار!
كل عربي مدان حتى يثبت العكس، ولن يثبت.
بعضهم مدان بالإرهاب، أو المخدرات، أو بالدكتاتورية ومجافاة الديمقراطية، وجلهم مدان بالتخلف والقصور والتحكم بموارد هائلة تقرر مصير الإنسان في هذا العالم المذهلة وتيرة تقدمه من دون أن يكون صاحب أهلية تمكنه من ذلك، والكل مدان – من حيث المبدأ – بالأصولية والتطرف الإسلامي المتفجر!
كل عربي قاتل أو مشروع قاتل، والتهمة هي هويته وطريق البراءة هي التنصل منها! ولا مجال لتبرئة جماعية، بل لا بد لكل منهم أن يدين أخوته الآخرين إذا أراد البراءة لنفسه، وبهذا ينتهي الكل وقد أدانوا أنفسهم بأنفسهم وحق عليهم العقاب الأليم.
… وإلا “فالدرس العراقي” قابل للتكرار في أي مكان وزمان.
وبعض ما يجري في لبنان، هذه الأيام، يندرج في هذا السياق، خصوصاً وإن المجال مفتوح لدخول إسرائيل كشريك مضارب على الخط، فإذا استشفوا شيئاً من عدم الرضا على بعض العرب تبرعوا بتأديبهم بذريعة إعادتهم إلى بيت الطاعة الأميركي.
فالشعار الأميركي الذي يقرن الإرهاب بالثورة والأصولية بالتطرف هو إسرائيلي المنشأ، وهو موجه أساساً ضد افلعرب، ولن يجد الأميركيون غضاضة في تبنيه حتى وهم مختلفون على حصة كل منهم في الغنيمة العربية.
كل عربي مدان، ولا مجال للبراءة إلا بتوحيد الموقف ولو على قاعدة الحد الأدنى أو الأدنى من الأدنى.
والأمل أن يكون هذا اللقاء الناقص، وهذا البيان الضعيف، مع التبرع بموقف “الوسيط النزيه” بين أخ شقيق وطامع أجنبي، هو خطوة في اتجاه هذا الحد الأدنى الذي يكاد يشكل سقف النظام العربي القديم اللاهث للانضواء أو الاحتماء تحت عباءة النظام العالمي الجديد!

Exit mobile version