أعظم مزايا “الاتفاق” الذي قال 65 نائباً “نعم” لإبرامه أمس، إنه اتفاق غير قابل للتنفيذ،
وما ذهب ديفيد كيمحي لإبلاغه إلى واشنطن اليوم حول انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من بعض المناطق خلال الأسابيع القليلة المقبلة هو ما كان مقرراً في تل أبيب قبل التوقيع على “الاتفاق” وقبل إبرامه، وقد أرجئ تنفيذه لبعض الوقت كورقة ضغط على لبنان، وليمكن من ثم تصوير الخطوة وكأنها نصر لراعي الاتفاق وعرابه (الأميركي) وللمتعاطي معه في لبنان وكأنه إنجاز في مستوى الإعجاز.
وأكفأ محام في الدفاع عن توقيع “الاتفاق” ثم عن إبرامه هو عصر الهزيمة العربية الذي تكاد تنعدم فيه القدرة على تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وفي ظل بلبلة عارمة كالتي نعيش، وضياع، وتمزق وقنوط وشعور عميق بالخيبة والإحباط، من الظلم أن نحمّل جو حمود وحسن زهمول الميس وعبد المولى أمهز وموريس زوين والمير مجيد أشفاهما الله وأمثالهم مسؤولية التفريط بلبنان وإدخاله العصر الإسرائيليز
فنحن في العصر الإسرائيلي، فعلاً منذ زمن بعيد،
لعلنا الآن قد توغلنا فيه بحيث بات صعباً علينا أن نجد طريق الخروج من أساره.
ولعلنا قد حملنا وسنحمل مستقبلاص بعض سماته وبصماته كمثل ارتدادنا عن مشاريع الدول إلى القبائل والعشائر وأوهام الأوطان الطائفية.
لكننا لم نكن أبداً خارج هذا العصر، وإن كان دخولنا “الرسمي” الآن قد اتخذ بعده القانوني الكامل بحماية الأجهزة الساهرة على سلامة البلاد والعباد وما أكثرها، وما أكثر المتبرعين – في الداخل والخارج – لكيونوا في عدادهغا.
أعظم مزايا “الاتفاق” الذي أبرمه المجلس النيابي أمس، إنه مثل المجلس: موجود بحكم تعذر “البديل”، ومطعون فيه بسبب تناقضه مع الطبيعة والطموح ، ومشكوك في فاعليته وإمكان أن يحل أية مشكلة، لكن غيابه مشكلة قد تفوق مشكلة حضوره.
وابأس مزايا “الاتفاق” إنه يقدم للبنانيين بوصفه خلاصة ما توصل إليه الجهد العربي في نجدته لهم، ومن هنا الارتباك والتردد في المطالبة أو المحاسبة: فالعاجز عن الحماية وعن التحرير هو ذاته أفصح المحاضرين عن ضرورة دفع ثمن الاجلاء لاستعادة السيادة والاستقلال والوحدة الوطنية!!!
لهذا كله فالمعركة ضد “الاتفاق” يمتد ميدانها فسيحاً ليغطي الأرض العربية المنداحة في ما بين المحيط والخليج.
فلا المعركة بدأت في بيروت ولا هي ستنتهي فيها، برغم إن بيروت قد أعطتها اسمها وكشفت عن مداها الكلي الخطر والخطورة.
وبين أعظم مزايا “الاتفاقط إنه كشف، حتى قبل إبرامه، إن المسؤولين عن عقده هم بالضبط أولئك الذين عجزوا عن منع الوصول إليه… فهو نتيجة، مجرد نتيجة للأسباب التي صنعت عصر الهزيمة العربية الراهن، وأمنت سيادة مناخه على العرب في مختلف أقطارهمز
ومن حق أي مواطن لبناني، كما من حق سائر المواطنين العرب، أن يقرأ أسماء النواب الذين قالوا “نعم” لإبرام “الاتفاق” مسبوقة بعشرين اسماً آخر لعشرين حاكماص عربياً يتقاسمون مغانم النظام العربي الواحد، نظام الهزيمة العربية الواحد ويتكاملون داخله.
فكلهم تربطهم بالهزيمة صلة رحم وكلهم أبناء عمومة أو أبناء خؤولة والجد واحد في الحالات جميعاً.
على هذا فلا يجوز الادعاء بأن موقف النواب قد فاجأ أحداً.
كذلك لا يجوز لأحدنا ادعاء البراءة: فكلنا في الهم وفي الذنب وفي المسؤولية سواء.
وإذا كان إبرام “الاتفاق” جريمة، وإنه لكذلك، فماذا يمكن أن نسمي الرضى أو التسليم بالمفاوضات التي كان مقدراً لها – بالضرورة – أن تنتهي باتفاق ما، قد تختلف بعض نصوصه عما تم توقيعه بالفعل، لكن الجوهر يبقى واحداً: فهو اتفاق إذعان بين منتصر سلم مواجهوه المفترضون بأنه لا يقهر وبأن إرادته قدر لا يدر، وبين مهزوم مهيض الجناح مخطوم القلب مسلوب الأرض والإرادة والوحدة التي تصنع القرار الفذ؟!
وإذا كان التسليم بمطالب العدو الإسرائيلي، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، انتقاصاً من سيادة لبنان واستقلاله وتهديداً لأسباب وجوده، وإنه لكذلك، فماذا يمكن أن يسمى التغاضي عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ومحاصرة عاصمته بنصف المليون إنسان فيها، ثم إسقاطها وترويع أهلها وقاطنيها بالمذابح المنظمة في صبرا وشاتيلا ومناطق أخرى، وبالاعتقالات الجماعية التي أوصلت إلى معتقل أنصار (والمعتقلات الإضافية!!) بضعة آلاف من المواطنين كما من المقيميثن الفلسطينيين؟!
وقبل: لقد أفقدتنا أنظمة الهزيمة مصر، كنانة الله في أرضه، دولة العرب الوحيدة وحاملة رايتهم وجامعة شملهم والقادرة على سحبهم من أصداف البداوة والعشائرية والطائفية والمذهبية وسائر الغرائز المترسبة من دهور القهر الاستعماري والتخلف.
صحيح إن حاكمها قد سقط في وهدة الخيانة فانحرف بها حتى أخرجها من جلدها وهويتها ودورها، ولكن الصحيح إن الحكام الآخرين كانوا له شركاء وحلفاء صادقين فأعانوه على قهر مصر والمصريين حتى إذا تم له (ولهم) ما أراد التفتوا إلينا قائلين: وماذا تريدوننا أن نفعل وقد فقدنا مصرنا العزيزة؟! إننا أضعف من أن نرفض وإسرائيل أقوى من أن تقبل، فلنترك الأمر لصاحب الأمر في البيت الأبيض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير؟!
على هذا يمكن القول إننا قد خلنا العصر الإسرائيلي في اللحظة ذاتها التي أخرجت فيها مصر من العصر العربي، أي في أعقاب بيع حرب العبور المجيدة في تلك المناقصة المفتوحة – بعد – لرهن أو استملاك ما تيسر من الأراضي العربية بوضع اليد ومرور الزمن وغياب أو تغييب صاحب الحق الشرعي فيها،
ولأن التاريخ ليس مجموعة من المصادقات الفجة، فإن السياق ينتظم حين نستذكر أن حرب الصحراء بين المغرب والجزائر قد فجرت بعد وقت قليل، ثم بعدها كان تفجير الحرب الأهلية في لبنان، التي التهمت طاقات شعبه ومعه المقاومة الفلسطينية وسوريا وأغرقتهم جميعاً في حمى صراعات لا نهاية لها بينما عدو الجميع ينتظر اللحظة المناسبة لاجتياحهم جميعاً (وقد كان)،
وفي هذا السياق يجيء عدوان مصر على الجماهيرية العربية الليبية (1977)، ثم الحرب العراقية – الإيرانية التي نقترب الآن من بدايات سنتها الرابعة، دون أن ننسى “مشاريع الحروب” التي أوقفت في اللحظات الأخيرة – وبأثمان باهظة – بين سوريا والأردن وبين العراق وسوريا وبين اليمنين وبين اليمن والجنوبي وعمان، وبين السودان وليبيا، وبين تونس وليبيا الخ الخ الخ.
إننا في العصر الإسرائيلي،
والبقاء فيه ليس قدراً، وليس حكماً مبرماً بالمؤبد،
لكن الخروج منه معركة تتعدى لبنان وطاقته وقدرات شعبه حتى لو تيسرت الفرصة أمامه لكي يستعيد وحدته.
الخروج منه يتطلب كسر الحلقة الجهنمية التي يحصر داخلها ويغيب – بالقهر – المئة وخمسون مليوناً من العرب.
فـ “الاتفاق” لن ينفذ،
لكن عدم تنفيذه يرجع إلى أننا “في” العصر الإسرائيلي ومخضعون لإرادة العدو ومطامعه وأغراض مشروعه الإمبراطوري ، ومقهورون بحكامنا وأنظمتنا الفاسدة والمفسدة.
ونعترف إننا أعجز من أن نحقق وحدنا المعجزة،
لكننا مستعدون لأن نقدم إسهامنا في النضال لكسر تلك الحلقة الجهنمية التي تمنعنا من الخروج إلى حيث يمكننا أن نستنشق هواء نقياً وأن نرى الشمس وترانا، وأن نواجه إسرائيل مباشرة والعين في العين،
والمطلوب، لإنقاذ لبنان وسائر الأقطار العربية، أن يتجه الجهد كله، إلى تكسير تلك الحلقة الجهنمية التي تضبط النظام العربي، الواحد، نظام الهزيمة العربية الواحد.
وكل العواصم بيروت: بما هي العاصمة المحاصرة والمشلولة والمغلولة الإرادة،
فليضرب كل الحلقة حيث هو، فهي من حوله، تطوقه، تحاصره، بل هي أحياناً فيه.
وفي انتظار ذلك سيبقى لبنان محتلاً بعسكر لا يخرج وباتفاق لا ينفذ وبعجز هو السد بينه وبين انتمائه الحقيقي وهويته الأصلية.