الاعلام الطائفي لا يستأذن أحداً، وهو “معصوم” وفوق الحساب.
والاعلام المعادي (الإسرائيلي والغربي إجمالاً وبعض المحسوب عربياً) لا يستأذن أحداً، ولا يحاكمه أحد، ولا يجرؤ كما لا يقدر على منعه أحد.
والاعلام اللاغي للسياسة، بما هي معالجة للشأن الوطني أو القومي، مرغوب ومطلوب تسخر له الإمكانات المادية وتفتح أمامه الحدود، ويفرض فرضاً على الجمهور “القاصر”.
إعلام “الطغمة المالية” والاحتكارات والسمسرة والزواج المغاير للطبيعة بين الذهب العربي الأسود والعقل الصهيوني المشع، هو الرمز الرائج للحريات والمسوق باعتباره التجسيد الحي لحقوق الإنسان… الفقير إلى حد الاملاق!
وحده الاعلام الطبيعي هو الممنوع والمطارد والمشبوه، بل والمدان من دون محاكمة، والذي يدور “النقاش الحكومي” الآن حول كيفية إعدامه: شنقاً أم رمياً بالرصاص؟!
وحده الاعلام الطبيعي الذي يتعامل مع المواطن على أنه مخلوق سوي، له عقله، وله رأيه، وله رؤيته، وله اجتهاداته، وله بالتالي موقفه لأنه يعتبر أن بين حقوقه “الطبيعية” المعرفة والتعرف إلى الأراء جميعاً، ثم الاختلاف مع الحاكم ومعارضته والاعتراض على قراراته، بعضها أو كلها.
وحده هذا الاعلام الطبيعي هو المطارد باللعنة، وهو الذي يتبارى الحكام في ابتكار الوسائل لتدجينه وتطويعه وإسكاته بحيث يطمئنون إلى سيادة قمعهم بغير حسيب أو رقيب.
والنقاش الذي دار في مجلس الوزراء، ليل أمس الأول، حول تعديل المرسوم 104 الذي استصدر أصلاً لقتل الصحافة في لبنان، لا يسيء إلى الصحافة بل هو يفضح طبيعة “العقل” الحاكم ومدى عمق “الروح الديموقراطية” وتأصلها في نفوس هؤلاء السادة لاذين احتدم “نقاش الرأي الواحد” في ما بينهم إلى حد التشطر، فصوت التابع خلافاً لرأس المتبوع، ونال بطل إلغاء الاعلام عموماً وسام الدفاع عن الاعلام المكتوب… علماً بأنه هو الوحيد من بين جميع من “حكموا” على امتداد عمر المرسوم 104 الذي تجرأ على استخدام هذا “القانون” الهمايوني القاتل الذي استصدر في ظروف استثنائية وبذريعة معالجة الأوضاع الاستثنائية في العام 1977.
ليس الموضوع أي سطر هو الخطأ في نص المرسوم أو خاصة في نص التعديل المقترح.
بل إن النقاش أصلاً غير ذي موضوع، لأن الموقف الطبيعي لأي “ديموقراطي” هو أن يبادر وبلا تردد، وبلا نقاش، إلى مسح تلك الوصمة عن جبين ما يسمى “النظام الديموقراطي”… وليس بهدف خدمة الصحافة أو التبرع بحمايتها، بل من أجل حماية ذاته ونظامه وجمهوريته وحلمه في غد أفضل.
فالمرسوم 104 خطيئة، والتوغل فيها هو ما جرى بالأمس، عندما طمست الحقيقة بغلاف أنيق من “النقاش” في الفقه الدستوري بينما الضحية تنزف على المشرحة أمام عيون المستغرقين في تحديد “الديموقراطية” وكأنهم يخترعونها ويستحدثون مفهومها وسبل ممارستها والحقوق التي توفرها للمؤمنين بها.
ادعت الحكومة أنها تحاول تصحيح خطأ فارتكبت خطيئة.
وإذا كانت نقابتا الصحافة والمحررين قد رفضتا هذا التعديل وركزتا الاعتراض على بعض الجمل والعبارات فيه، خوفاً من حمل صليب المطلب الأصلي بإلغاء ذلك القانون المتعسف والذي مكن الحاكم من قتل الحرية شرعاً.
وإذا كان الخواء السياسي السائد في البلاد واندثار الأحزاب وتهالك النقابات وسائر أشكال العمل الشعبي، يتيح للحكومة أن تتباهى بديموقراطية النقاش داخلها على حساب حق الناس في الديموقراطية في بلادهم ذات النظام الديموقراطي.
… وإذا كان المجلس النيابي هو الحصن الأخير، المفترض ، لحماية الحريات العامة، وهو حامي حمى النظام الديموقراطي، وعنوان أي نظام ديموقراطي هو ضمان حرية التعبير قولاً وكتابة وتنظيماً.
فلا يبقى غير التوجه إلى المجلس النيابي، وقد أحيل الأمر إليه، لكي يثبت صدق انتمائه إلى التراث الديموقراطي للبنان، وحرصه على الصحافة (والاعلام عموماً) بوصفها آخر ما تبقى من الديموقراطية في لبنان، وهي التي كانت واحة نادرة في صحراء القمع العربي.
ونتمنى ألا يسقط المجلس في فخ النقاش الفقهي، كما الحكومة، فينسى جوهر الموضوع، ويحاكم الضحية مرة أخرى ويدينها، بدل أن يحاكم ويحكم الجاني الفعلي!