كيف تهرب من التاريخ في بلاد يتنفس أهلها التاريخ، وتحفظ جغرافيتها آثار أقدام التاريخ حتى لتسرد الحجارة حكاية الذي جرى، وتستشهد بموج الحبر وحفيف الهواء وأشعة الشمس التي كان لها دورها دائماً وفي النصر كما في الهزيمة؟!
الأمكنة صفحات ناطقة، والأسماء استحضار للغائبين، والذكريات تطفو فوق الملامح وتطل عبر العادات والتقاليد حتى في العزاء.
تجاوزنا طرابلس في الطريق إلى القرداحة، كل ما حولك بين شاهد وشهيد، من هنا عبر الجميع، ومن هنا اندحروا. الخط الساحلي كان خط مواجهة على الدوام، ولقد استمرت الحرب سجالاً بين أهل الداخل (الصحراوي) والفرنجة الآتين عبر البحر أجيالاً، وهي لما تنته.
الأوضح بين الآثار الباقية هو ما خلفه الصليبيون، أو ما استرده منهم المماليك والأتراك العثمانيون باسم الخلافة الإسلامية أو باسم أهل البلاد، لا فرق.
وغير بعيد عن “قلعة المرقب” وأبراجها المتناثرة فوق التلال الحاكمة كل الساحل الممتد من طرابلس إلى اللاذقية وامتداداً إلى أنطاكية تنبسط الأرض عند حميميم فيبنى مطار كان (أمس) ينتظر طائرة جيمس بيكر الآتي في محاولة لإعلان هدنة قد تكون طويلة في الحرب الصليبية الجديدة المفتوحة بين أهل المنطقة والآتين والمستقدمين عبر البحر أو من خلف البحار البعيدة، ولا يهم كثيراً أن يكون الوافدون الجدد يهودا رايتهم نجمة داوود وليس صليب السيد المسيح.
أن تكون ابن القرداحة، كحافظ الأسد، فإن صلاح الدين الأيوبي يعني لك أكثر قليلاً مما يعنيه لأي عربي، وربما لهذا تحتل تلك اللوحة الزيتية لمعركة حطين – وحدها – صدر الجدار في الصالة التي يستقبل فيها الرئيس السوري زواره الرسميين، لاسيما الأجانب منهم.
الحزن في القلب، الحزن في كل مكان، الحزن مترسب في التربة هنا، في الواقع الاجتماعي الاقتصادي، في واقع الفقر والتخلف الذي فرض على المنطقة أن تستمر رهينة له، حتى بعد “الاستقلال”.
تركنا الأوتوستراد الساحلي، وانحرفنا يميناً مصعدين مع الهضاب التي تطل من بين بيوتها القديمة والفقيرة مشاريع دور وقصور فخمة بالقياس إلى الموروث، ولكنها مزروعة بعمليات جراحية. إنها واحدة من علامات المرحلة الانتقالية، مرحلة محاولة اللحاق بالمركز وبالجهات التي سبقت في الوصول إلى الاستقرار المادي والنفسي والاجتماعي.
لا تختلف القرداحة بكثير عن معظم القرى والقصبات في أي ريف. ثمة مشروع قديم لتوسيع طريقها ومدخلها، ترتفع فيه أعمدة الكهرباء وفيها مصابيح تعلن عن تحول القرية إلى مشروع مدينة. والبيوت الطينية وذات الطراز الفلاحي العتيق تتناقص مفسحة المجال لعمارات الإسمنت والقرميد، والاهتمام متزايد بالشجرة والخضرة واللمسات الجمالية.
أبرز المباني المسجد… أما “بيت الرئيس ” المظلل بغابة من الشربين والشوح ففي قلب البلدة. ما قبله عادي، وما حوله عادي، وما بعده عادي، وأنت تصل إليه في المناسبة الحزينة بغير دليل.
“الصيوان” عبارة عن “هنغار” مخصص للحرس، في العادة. إنه بديل عن “بيت العرب” أو “خيمة شعر الماعز” التي تنصب كسرادق للعزاء في أية قرية في مثل هذه المناسبة.
تدخل فإذا أنت وسط مئات من الفلاحين والشيوخ والضباط وبسطاء الناس. لقد أتوا للقيام بواجب التعزية ، تماماً كما يفعلون في أي زمان ومكان.
الرئيس في صدر “السرادق” يحيط به اثنان من أخوته. هادئ كعادته دائماً، وإن كانت العينان تلتمعان بين الحين والآخر وتسافر عبرهما الأفكار إلى البعيد. الأخ الأكبر بلباسه الطبيعي هناك: “الصاية” أو “الغنباز” تحته السروال وفوقه “السترة” وعلى الرأس كوفية وعقال.
لولا بعض “أمن الرئاسة” لاختفت آخر مظاهر السلطة، الحزن أعمق أثراً من السلطة، ولا حدود لهيبة قضاء الله وقدره.
يتقدم الناس، العادي منهم والرسمي، الوزير والخفير، الأمير والفلاح، فيقف حافظ الأسد. يمدون أيديهم فيشدون على يده يتمتعون بكلمات العزاء، فيرد متمتماً بالشكر و”عوضنا الله سلامتكم”، يخرجون، فتدخل أفواج أخرى. إلى اليسار ناقل صوت، وكراس يتناوب عليها المقرئون. يتلون ما تيسر من آي الذكر الحكيم فتهدأ الجلبة في انتظار”الفاتحة”، وبعدها تدور القهوة المرة، كما في أي بيت،
الحزن يصفي النفس، ويبلور إنسانية الرجل فإذا به أكثر شفافية، وإذا لابتسامته المرحبة والمجاملة فعل السحر.
… بعد قليل سيتوافد رجال الدولة، وسينتظرون “الرئيس” فينضم إليهم، مرجئاً الحزن والتعازي، ريثما يستعد لجولة المنازلة الجديدة مع وزير الخارجية الأميركي الآتي ليأخذ ما ينفع رئيسه في انتخاباته، عبر “مفاوضات السلام” التي يريدونها الآن في واشنطن لتكون “الصورة” بعض العدة الانتخابية.
كيفما تحرك بيكرسيري، لو كشف له ما فات، أرتالاً من الجند، فرساناً وراجلين، وطوابير من الآليات، كل بحسب زمانها، ساقتها المصالح والأطماع إلى مواجهات وحروب طويلة قتل فيها من قتل وتاه فيها من تاه، لكن الأرض بقيت لمن هم عليها، واندثر الوافد عبرالبحر، بغض النظر عن الراية التي جاء يقاتل تحتها.
والأرض بإنسانها، كما إن الإنسان بأرضه.
ألسنا نحن أرضنا، ألم نصنعها من أجداث موتانا؟!
كيف تكون لغيرنا ونحن حتى في الموت لا نرحل إلا إليها لنبقى فيها ولنتوصل عبرها، من القرداحة إلى بنت جبيل والقنيطرة وغزة فلسطين والقدس الشريف؟!
ولقد بقيت القلاع وذهب الذين جاءوا فبنوها ليتحصنوا فيها، بقيت في الأرض ولأصحاب الأرض، والعزاء في الأرض وفي من يحفظ الأرض.