هي شجاعة أن يدخل الحزب الشيوعي اللبناني إلى قلب العاصفة بقدميه، وأن يتصدى لمهمات ثقيلة الوطأة بقدراته المحدوة ووسط جو غير مؤات للحوار والنقاش المفتوح.
شجاعة هي بلا شك أن يخترق أي كان صحراء الإحباط والخيبة والخوف من تهمة “العقائدية” والانتماء الأيديولوجي، قبل الوصول إلى الاشتراكية (البائدة!!) والشيوعية (الملعونة!!).
… فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالحزب الشيوعي الذي صار “إذا أصابته سهام تكسرت النصال على النصال”، لشدة ما لحق بجسمه التنظيمي وممارساته السياسية من تشوهات نتيجة للحرب الأهلية التي كان مستحيلاً عليه أن يبقى خارجها ومستحيلاً أن يقودها ومستحيلاً أن يستفيد من نتائجها ومستحيلاً أن يقفل أبوابه ويقرع جرس الانصارف لمناضليه بعد سقوطها في جب ا لطائفية والمذهبية، إضافة إلى تحكم “لعبة الأمم” بسياقها وأدوار “أبطالها” ونجوم الحل – التسوية لمأزقها الشديد التعقيد.
إن معظم الأحزاب السياسية في لبنان قد سلمت بسقوطها واندحارها أمام الأمراض التي نشرها مستنقع الحرب الأهلية، أو هي على الأقل قد أقرت بضرورة إعادة صياغة هيكلها التنظيمي وبرنامجها السياسي وتوجهاتها إضافة إلى أسلوبها ولغتها أي خطابها السياسي.
لكن معظم هذا المعظم انكفأ بأزمته إلى قوقعته ، وتستر عليها تخوفاً من عجزه عن معالجتها أو تخطيها، أو إنه دفن رأسه في الرمال واستمر بعقد اللقاءات لهيئاته القيادية المتهالكة، واستمر يذيع بين الحين والآخر بيانات جزيلة اللغة مفرغة من أي مضمون، تلامس الأزمات التي تعج بها البلاد من دون أن تتصدى للعلاج أو تقترح الحلول… فإذا نطقت فلتتهم الحكم بالتقصير، وهذا أضعف الإيمان!
الطريف أن أفصح الأحزاب في توجيه مثل هذا الاتهام للحكم هي الأحزاب المشاركة في الحكم، والتي جنت من فوائده ومنافعه شرعاً أو بالزور والتزوير ما مكنها من إقامة الشركات القابضة أو القبض على الشركات المساهمة أو وضع اليد على المشاعات وأملاك الدولة ومنشآتها الخ.
ولقد عكس امتناع الأحزاب عن طرح أزماتها للنقاش، ولو داخل أطرها التنظيمية ، فداحة البؤس وحالة العقم والخواء والعجز، ثم هربها من مواجهة ذاتها ومصارحة “جماهيرها” بأن عليها البحث عن أطر أخرى لنضالاتها من أجل حقوقها وحرياتها.
بهذا المعنى فإن إقدام الحزب الشيوعي على طرح كل المسائل الصعبة للنقاش داخل أطره التنظيمية بداية وعلى امتداد شهور طويلة، ثم الدعوة إلى مؤتمره السادس بحضور شهود ومراقبين خطوة شجاعة في اتجاه النظر في عيني الأزمة بدلاً من تجاهلها.
وبغض النظر عن النتائج التي سينتهي إليها النقاش عبر المؤتمر فلا بد من تسجيل الملاحظات الآتية، تنشيطاً للذاكرة وتعزيزاً لدور الحوار في حل أعقد المسائل الفكرية والتنظيمية وأخطرها:
أولاً – ليس صحيحاً بالمطلق أن عصر الأيديولوجيات والعقائد قد انتهى وسقط بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي (سابقاً)،
أبسط دليل أن الوريث الشرعي لهذا النظام “العقائدي” هو “عقيدة” أخرى، أي الدين. وليس سراً أن أقوى قوة في “الروسيا المقدسة” اليوم هي الكنيسة الأرثوذكسية.
في السياق ذاته يمكن اعتبار الرجوع إلى “الإسلامية” في الجزائر هو اندفاع نحو عقيدة راسخة بدلاً من التعلق بانتقاءات عشوائية وشكلية وبوليسية في الغالب مستوحاة من عقيدة وافدة وليست لها جذور داخل المجتمع الجزائري.
ثانياً – ليس صحيحاً بالمطلق أن الناس قد انفضوا عن العمل الحزبي. الصحيح إنهم “كبروا” بالتجربة المرة التي عاشوها في حين صغرت وتضاءلت معظم الأحزاب القائمة حتى اندثرت. بعضها ذاب في الطائفة نهائياً، وبعضها في الميليشيا المذهبية، وبعض ثالث تحجر فعجز عن تطوير نفسه أو تمييز نفسه عن أنظمة أشهرت إفلاسها عبر حروب مدمرة.
ثمة أحزاب قد سقطت، لكن الناس في تشوق إلى الفكرة المشعة، إلى الوعد الجدي بالتغيير، إلى الشعار المجسد لاحتياجاتها وبينها أبسط حقوقها في وطنها.
وثمة مهمات لا حصر لها تنتظر من ينهض بها، ويقدم نفسه بوصفه المؤهل والجدي والمخلص، ثم يجيء بعد ذلك حديث القدرة.
ولا يعقل أن يكون من انتمى على الحزب الشيوعي، مثلاً، قبل خمسين عاماً، قد افترض أنه سيسقط النظام ويغير الدولة خلال شهر أو سنة أو بضع سنوات، ولكنه “تطوع” لتحقيق حلم سني، وقرر أن يوظف شبابه كرصيد يفيد منه في طفولته أو شيخوخته أو يفيد منه أبناؤه.
الأحلام بطبيعتها بعيدة المنال، أبعد من مدى العمر،
والعيب ليس في الحلم ومدى بعده، ولكن في الرجل البلا خيال، وفي مستقبل ظروف حياته كما هي وكأنها قدروكأنه مجرد عابر يجيء بلاهدف ويمض بلا أثر.
والناس يشترون أحلامهم بأعمارهم، بدمائهم، بأبنائهم وأرزاقهم وما قد يملكون… ولكن من هو القادر على غزل الأحلام، والذي له من المصداقية ما يمكنه من توحيد أحلام الناس في برنامج نضالي؟!
ثالثاً – إن الحزب الشيوعي صاحب تاريخ عريق ولا يجوز له بعد سبعين عاماً من العمل العام أن “يباغت” المواطنين الذين احترموا تاريخه وطالبوا له بحرية الدعوة والعمل والنشاط بأنه لا يملك ما يفيدهم في يومهم وفي غدهم لأن “الرفاق السوفيات” في أزمة… أو لأن نظام الحكم الذي قدم نفسه باسم الشيوعية قد سقط في الصراع مع الرأسمالية.
إنها لحظة مواجهة الحقيقة التي سبق لهذا الحزب أن التقاها مواربة قبل ربع قرن تقريباً، وكان رائداً بين الشيوعين العرب في هذا المجال.
لقد بدأ الحزب الشيوعي اللبناني رحلة المصالح مع حقائق الحياة في بلاده ومنطقته والثوابت في يقين أمته قبل سنوات طوال،
ولعله قد أضاع وقتاً ثميناً بين “اكتشاف” تلك الحقائق واعتمادها كمنطلقات نهائية لبرنامجه السياسي، ومرتكزات لاستقطاب الجمهور الباحث عمن يحمل أعلام نضاله وأحلامه في غد عربي أفضل.
وليس مطلوباً أن يرتد الحزب الشيوعي اللبناني عن الأممية البلا حدود إلى الكيانية الخانقة داخل حدودها الضيقة والمسيجة بالأسلاك الطائفية الشائكة.
ولا هو مطلوب إعلان البراءة من الاشتراكية أو من الماركسية – الليلنينية،
المطلوب هو العودة إلى الحزب كأداة نضالية وليس كأداة سلطة، أو كامتداد لسلطة في الخارج.
المطلوب هو تبرئة الذات وتبرئة العقيدة، بحدود الممكن، من إفلاس النظام الذي حكم باسم الشيوعية.
فمقتل الأحزاب الشيوعية (عربية وغير عربية) إنها كانت تسلك وتنطق بلسان أنظمة حاكمة وطغاة يتحكمون بشعوب لم تنتخبهم ولم تسأل فيهم، بينما مناضلوها في السجون لمعارضتهم حاكمهم، سواء أكان مختلفاً أم متفقاً مع موسكو، بل لاسيما إذا كان متفقاً معها.
وحديث الحزب ومؤتمره طويل، وستكون لنا إليه عودة.
الشهيد المغربي لثورة الجزائر
غيب الموت في المغرب، أمس، علماً من أعلام النضال الوطني والقومي هو عبد الرحيم بوعبيد، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية.
والقائد الراحل مثل حزبه الباقي هو سليل حزب الاستقلال، أي إنها متحدران من صلب الحركة الوطنية التي قادت نضال شعبها من أجل استعادة هويته القومية ومواصلة دوره الحضاري المتميز.
ولقد خاض بوعبيد ورفاقه الذين خرجوا من حزب الاستقلال وبينهم القائد الشهيد المهدي بن بركة ومحمد إبراهيم والصديق بن محجوب، معركة شرسة ومتعددة الجبهات من أجل غد أفضل: ضد الاستعمار الفرنسي بداية، ثم من أجل حركة نقابية فعالة وبالتالي من أجل حياة كريمة للشغيلة وصغار الكسبة أي الأكثرية الساحقة من الشعب المغربي، وأخيراً ضد طغيان العرش واحتكاره السلطة وإنكاره حق المشاركة على القوى الشعبية التي واجهت باللحم الحي حراب المستعمر من أجل إعادة الملك محمد الخامس (والد الحسن الثاني) إلى عرشه ورفضها المساوة عليه شخصياً أو على الملكية عموماً، بينما هو منفي.
وبالتأكيد فإن هذا الحزب الذي لعب دوراً عظيماً في الربط بين المغرب والمشرق، بين أواسط الخمسينات وأواسط الستينات، قد خسر من بعد الكثير من وهجه، لاسيما بعد سلسلة الضربات التي وجهتها إليه السلطة بالتعاون مع فرنسا وكان أقساها اختطاف المهدي بن بركة من قلب باريس واغتياله وفي ظروف بوليسية غامضة، تحمل بصمات إسرائيلية.
وكثيرون قد يقولون اليوم أن القائد الأخير قد مات بعد حزبه لا قبله، ولكن التاريخ لن يطمس دورهذا الحزب ولا دور قادته ومناضليه الذين بذلوا دماءهم من أجل حرية الأرض والإنسان في المغرب العربي.
ومن الواجب أن تقال كلمة إنصاف في هؤلاء المناضلين الذين أرهقتهم المزايدات من الخارج بقدر ما أنهكتهم المناقصات في الداخل.
وبقصد الإنصاف لا التشهير بالآخرين لا بد من الإشارة إلى أن تورط القيادة الجزائرية في موضوع الصحراء، وتلفيقها “دولة” لا سند لها من التاريخ أو الجغرافيا أو… السكان، قد سرع في تصديع الحركة الوطنية المغربية عموماً، وطليعتها القومية: الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية.
لقد مس النظام الجزائري ما لا يمس: قدسية التراب الوطني المغربي، فكان رد الفعل البديهي التمسك بوحدة البلاد ومن ثم أسلاس القياد للملك الذي صار – في ظل ذلك التهديد – رمزاً للوحدة: وحدة الأرض ووحدة الشعب.
وفي بلاد عانت من العبث الاستعماري بأرضها، كالمغرب، فإن وحدة التراب الوطني تكتسب قداسة غير عادية،
وليس مجازفة أن يقال إن هواري بومدين قد مكن الحسن الثاني من أن يستعيد شعبيته المفقودة، عبر إثارة قضية الصحراء، وأعاد إلى “بيت الطاعة” كل المعارضين الذين كانوا يناهضون النظام باسم الشعب ووحدته ووحدة أرضه إضافة إلى حقه في حياة كريمة.
وبمعنى من المعاني فإن كثيراً من الأحزاب والشخصيات الوطنية والقومية والتقدمية في المغرب يمكن اعتبارها في عداد “شهداء الجزائر”، إذ أحرجتهم فأخرجتهم ألزمتهم بالعودة مرغمين إلى حظيرة الولاء للعرش حتى لا يتورطوا في شبهة ارتكاب الخيانة العظمى لوحدة التراب الوطني المقدس.
وفي أي حال فإن كثيراً من “شهداء الجزائر” قد سقطوا خارج حدودها، والمؤسف أن بعضهم قد أسقط خارج قضيتها أيضاً بل ولحساب الخارجين على قضيتها.
رحم الله عبد الرحيم بوعبيد وعوض المغرب جيلاً جديداً من الماضلين يكمل الرسالة التي بدأها جيله والتي كانت تتخطى الأنظمة والحدود الوهمية وتسعى لبناء الحلم… وهي قد حملت السلاح، لفترة من أجل حلمها العظيم، ثم ارتد عليها السلاحوهوى الحلم وبقيت العروش في أرجاء المغرب العربي الكبير، تماماً كما في مشرقه.
الكبير بقلمه
الصغير أمام السلطان
رحل موسى صبري، أمس.
وموسى صبري واحد من “عتاولة” الصحافة العربية في مصر، ومن جيل “الكبار” بغض النظر عن مواقفه السياسية.
فهو “الصحافي” بالمعنى المهني الممتاز للكلمة: إنه الكاتب، المحقق، الريبورتر ، الناقد . هو المحرر وسكرتير التحرير ومدير التحرير ورئيس التحرير والمعلق. هو الفاهم في أصول التصوير أكثر من المصورين، وهو المتابع لتطور فن الكاريكاتور كأبرز الرسامين.
ثم إنه الهجاء المقذع، والمادح بامتياز، إذا هو قرر محاباة السلطان والضرب بسيفه.
وأخيراً فلقد كانت له مواقفه في الثقافة، وله محاولاته الأدبية، ولقه تقييماته ومساهماته في النقد الفني.
ومع أن موسى صبري لم يكن بين أصدقاء “السفير” ولا من المعجبين بها، بل لعله كان الأقصى في نقدها والتهجم عليها، فهذا لا يمنع من الاعتراف بكفاءته المهنية.
إنه أكبر من أن يكون أخطر تلميذ لمدرسة “أولاد أمين”، أي علي ومصطفى أمين، في الصحافة، وإن كان قد تتلمذ عليهما وعمل طيلة حياته المهنية في الصحف والمجلات التي أصدراها. وبالتأكيد فلقد انتهى لأن يكون “أستاذاً” بدورة لجيل من الصحافيين في مصر.
لقد ترك موسى صبري وراءه نتاجاً غزيراً فيه الغث وفيه السمين، لكن ما يبقى منه للتاريخ معظم ما كتبه في السياسة إنما كان بالتكليف واستجابة لطلب “السلطان” وليس بدافع من اقتناعه الشخصي.
وهو نموذج “المرتد” بمجرد أن يتبدل “الآمر” أو “الطالب” من أصحاب السلطة.
فمن ملكي حتى الأذنين تحول إلى جمهوري، فإلى “ناصري”، فإلى اشتراكي… ومع إعلان وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر صار ساداتياً حتى العظم، وسابق زعيمه الجديد إلى القدس المحتلة، وقلب قلمه ليسفه الاشتراكية والاشتراكيين داعياً إلى الانفتاح واقتصاديات السوق بالبلاغة نفسها التي كتب ضدهما.
رحم الله موسى صبري وغفر له، وعوضنا أقلاماً كالسيوف يبقى منها بعد الرحل ما ينفع أمتها التي أعطت دائماً موقع الصدارة فيها لأصحاب الرأي…
فالرأي قديماً وحديثاً “قبل شجاعة الشجعان”.