طلال سلمان

على الطريق الحصن الأفريقي الأخير!

تنفس معظم حكام الهزيمة ودعاة الصلح المنفرد الصعداء وكادوا يزغردون فرحاً وهم يرون معمر القذافي يخطئ في ما لا يجوز الخطأ فيه!
جاءهم الخبر – الصاعقة عن “الحجاج الليبيين” كموعد مشتهي مع غاليات الأماني، وجلسوا إلى شاشات التلفزيون يُملون نظرهم بالمشهد “التاريخي” الفذ والنافر إلى حد إيذاء الوجدان: رجال سمر البشرة، صارمو الملامح، يزمون جفونهم على العيون الضيقة والمتحفزة لأن تنغلق تحاشياً لهجمة الرمال الصحراوية، يقفون متصاغرين أمام العلم الإسرائيلي والمجندة الإسرائيلية والنخاس اليهودي لكي يحظوا بتأشيرة دخول إلى القدس الشريف بحراسة حراب المحتل الإسرائيلي!
… إذاً لقد انفتحت طريقهم إلى الصلح مع العدو بعد زوال “الحاجز الليبي” الذي كان يلعب دور “حامي الثغور العربية في أفريقيا”.
“كلنا في طلب السلام والسلامة سواء، لا فرق بين ثوري وبين رجعي، بين مدني وعسكري، بين ليبي وبين سعودي، بين غني بالنفط وغني بالنفس… والحمد لله إن قد جمعنا على الجنوح إلى السلم، فما اجتمعت أمتي على ضلال”!
كانت ليبيا – القذافي الحصن الأخير في أفريقيا العربية.
من “المقهورة بكامب ديفيد”، كما ظل القذافي يسمي القاهرة لسنين طويلة بعد انحراف السادات بزيارة العار الشهيرة، إلى “رباط الفتح” التي فتح “أمير المؤمنين” أبوابها ومنذ عقدين تقريباً أمام كبار الصهاينة وتبرع للقيام بدور المسوق والمروج والداعية “لاجتماع العبقرية اليهودية مع المال العربي”، مروراً بتونس – الزين الذي تطوع لتقديم بلاده دار ضيافة للإسرائيليين إذا ما جاءوا محاورين ولو ضمن المفاوضات متعددة الأطراف… كانت الأرض قد مُهدت تماماً للسلام الإسرائيلي الآتي باسم الأميركان.
ولقد تزايدت أهمية ليبيا – القذافي بعد تصدع جزائر – الثورة وغرقها في أتون حرب أهلية مفجعة بين مسلمي السلطة ومسلمي المعارضة.
كانت ليبيا – عقبة بن نافع وموسى بن نصير وعمر المختار ومعمر القذافي – تقف كالديان: تفضح المتسلل في الظلام لعله يخفي تفريطه، وتصرخ بالمنحرف لينضبط فلا يتسبب في إضافة نكبة جديدة إلى نكبات هذه الأمة المثقلة بحكامها المهزومين والمستعدين لأن يتخلوا عن كل مقدساتها مقابل أن يستمروا في السطلة سنة أو شهراً أو حتى يوماً إضافياً واحداً.
بالمقابل كانت بعض دول الجزيرة والخليج، وفي الطليعة منها السعودية و”كويت ما بعد التحرير”، تندفع بتهور إلى الاستسلام بغير طلب، وإلى التبرع بتواقيع مجانية تضيع معها وعبرها الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان.
وكانت مملكة الصمت الأبيض والنفط الأسود والمكاتب المقفلة “لجمعية اللجنة السعودية – للدفاع عن الحقوق الشرعية – أي حقوق الإنسان”، تحسب حساباً مؤثراً لذلك “الشاب المتهمور في طرابلس” والذي لا يمكن أن يسكت عن خطأ أو يتغاضى عن خطيئة.
وهكذا فما أن طيرت وكالات الأنباء خبر قافلة الحجاج الليبيين إلى الأرض المحتلة في فلسطين، حتى انفرجت أسارير هؤلاء الحكام جميعاً وتبادلوا برقيات التهنئة في ما بينهم: لقد خلصنا الله منه، فحمدا لله كثيراً والله أكبر كبيرا، وها هي بعض فضائل الأضحى ونعمه تنهال علينا فلا نكد نحصيها!
وبالطبع فقد استذكر الكل أن أضحى العام 1977 قد أراحهم (وأراح إسرائيل معهم) من مصر، وها هو أضحى العام 1993 يريحهم (ويريح معهم حليفهم الإسرائيلي) من هم ليبيا وثورتها القومية وثائرها المزعج الذي يقض مضاجعهم منذ الفاتح من سبتمبر 1969.
… بورك فيك يا بطل الفضائح الشخصية والوطنية عدنان خاشقجي، أيها السعودي المخلص!
في غير هذه المناسبة يمكن أن يقدم كشف حساب بمسؤولية الأنظمة العربية المشار إليها عن الضيق والعنت وحالة الاختناق التي تعيشها ليبيا تحت ضغط الحصار الغربي، المموه بالشرعية الدولية (المخضعة للهيمنة الأميركية)، والتي كان يفترض بالعرب أن يكسروها من أجلهم جميعاً وفي مختلف أقطارهم، ومن أجل كرامة أجيالهم الآتية وحقها في تقرير مصيرها فوق أرضها وبإرادتها الحرة، وليس من أجل الثلاثة ملايين ليبي بقيادة معمر القذافي.
وفي غير هذه المناسبة يمكن أن يدان جميع هؤلاء الذين تخلوا عن أخيهم المظلوم والمحاصر، وأعاروا سيوفهم للعدو كي ينتقم من ليبيا وشعبها العربي كله وليس فقط من معمر القذافي.
لكن الخطأ السياسي الفادح الذي ارتكبه القذافي منح براءة مجانية لكل الخطاة والضالعين في الانحراف وبيع الأوطان حتى آذانهم.
لقد أراد معاقبتهم فعاقب الأمة وكاد يمنحهم صك براءة، وانتهى مداناً بعدما كان دياناً وصاحب حق شرعي بالمساءلة وتوقيع العقاب.
والأخطر أن معمر القذافي قد خيب أمل الأمة فيه وأضعفها في مواجهة عدوها وحلفاء عدوها من حكامها.
وما زال طريق التكفير عن الخطأ مفتوحاً.
والقذافي شجاع بما يكفي لكي يتراجع عن خطأ فاضح كالذي تورط فيه، تحت ضغط الشعور بضغط الحصار ومرارة تخلي أخوانه عنه.

Exit mobile version