هناك حلقة مفقودة في الحوار حول الانتخابات، وربما لهذا تحول إلى جدل لا يخلو من المهاترات، ثم إلى مصدر للاختلاف يكاد يتخذ طابع الانشطار الطائفي، وهو بهذا يصير مأزقاً للحكم يحاصر فيه بالابتزاز حتى يخضع فيفقد ما تعبقى من هيبته ويتهدد مستقبله، أو يصمد فيتم الالتفاف عليه بقصد عزله والتشهير به وكأنه من “الخوارج”.
تتزايد التساؤلات عن مواقف “الدول” وتدور في حلقة مقفلة لانعدام المعلومات… وفي غياب الأجوبة القاطعة يكتسب العنصر المحلي أهمية ليست له، ولأن المحلي “طوائفي” ينزلق الكلام إلى حيث تبدو “الحرب” حتمية، مع أن الجميع يعرفون إنها مستحيلة للتعذر (بمعنى المدافع والصواريخ والجبهات والقتل على الهوية الخ…).
ولا شك إن مسألة الانتخابات قد بلورت دقة الوضع السياسي في لبنان، وكشفت حجم القوى المعترضة على التسوية السياسية التي تمت تحت راية اتفاق الطائف… وهي كانت كامنة تنتظر فرصة للانقضاض، أو إنها – بالأحرى – كانت تنتظر أن تحتاج بعض القوى الدولية إلى “خدماتها” فتطلقها من عقالها لتبتز بها الحكم في لبنان وراعيه وضامنه والمسؤول عن حماية التسوية: سوريا.
البعض يقول متبرماً: إنها معركة بين دمشق وواشنطن، وقد تم زجنا بها، فنحن مجرد أدوات أو ضحايا.
والبعض الآخر يقول بنبرة انعزالية فاقعة: إنها حروب الآخرين على أرضناز لقد أعدنا إلى ساحة الصراع في لعبة الأمم، بينما لا ناقة لنا فيها ولا جمل!
وبعض ثالث يقول بكثير من الحدة: كل المؤولية على رئيس الجمهورية، فهو وافق على ما لا يرغب فيه (وما لا يقدر عليه) بعدما ضمن حصته من المغانم… وها نحن في الدوامة ولا مخرج!
وبالإجمال فإن التحليلات “المحلية” تدور حول نفسها وتنتي باستنتاجات خاطئة لأنها تبسط الأمر بأكثر مما يحتمل، وتقفز إلى نتائج غير دقيقة لأنها لا تكلف نفسها عناء النظر إلى ما يجري لخريطة المنطقة، أو لأنها لا تربط بين ما هو مترابط ومتكامل فعلاً ولو قصرت الرؤية.
ومن الممكن طرح مجموعة من الأسئلة، وإيراد مجموعة من الوقائع، بقصد توسيع دائرة النقاش بحثاً عن الحلقة المفقودة، وليس من أجل الدفاع عن أحد أو الهجوم على أي طرف سواء أكان مستمتعاً بالعزف المنفرد في الانتخابات أم مستقوياً بلعبة توظيف التهييج الطائفي في تحصين الديموقراطية:
*أول الأسئلة – هل قرأنا جيداً دلالات وصول إسحق رابين إلى سدة السلطة في إسرائيل، وفي هذه اللحظة بالذات في سياق التحولات التي ترج الكون والتي اعتبرها “السيد” الأميركي لحظة ميلاد نظامه العالمي الجديد؟!
** وهل قرأنا جيداً ما قاله إسحق رابين في واشنطن، قبل ثم بعد أن نال “جائزته” المقررة، وهي ضمانات القروض (العشرة مليارات دولار)؟!
*** وهل قرأنا أيضاً، وبدقة، الكلام الأميركي الذي سمعه رابين من الرئيس الأميركي (الحالي) جورج بوش، ومن الرئيس الأميركي المقبل (؟) بيل كلينتون؟
لا يتصل الأمر بالمساعدات والقروض وشحنات الأسلحة المتطورة، على أهميتها، ولكنه يتصل بالطور الجديد الذي دخلته العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، والذي يتجاوز كل المستويات التي سبق أن عرفتها هذه العلاقات المتميزة بطبيعتها ومنذ أربعين سنة أو يزيد.
لقد تصرف إسحق رابين وكأنه “أميركي قوي” في إسرائيل، لأنه “أميركي قوي” في الولايات المتحدة الأميركية… وهو لذلك “الإسرائيلي القوي” والأقوى من العرب مجتمعين، بمن فيهم أصدقاء واشنطن من العرب، إن كان لها بينهم “أصدقاء”، وإن كانوا ما زالوا يعترفون بأنهم “عرب”.
تصرف من موقع “الشريك”، حتى في ظل النظام العالمي الجديد الوحيد القطب، ولذا فهو يطالب بحصته من مغانم حرب الخليج وبمفعول رجعي.
ولعل إثارة موضوع الصواريخ السورية، من جديد، وبلا مناسبة هو عناوين البحث في تلك “الحصة”، ولو من باب الابتزاز وتسليح الشريك الكبير بورقة ضغط إضافية على ما تبقى من الموقف العربي ممثلاً بسوريا.
*ثاني الأسئلة – هل وعينا بدقة خطورة الجريمة البشعة التي ترتكب الآن ضد العرب، كل العرب وفي مختلف أقطارهم، عبر هذا النقاش العلني والمستقبل بصمت مريب حول إقامة منطقة أمنية في جنوب العراق؟!
لقد وجهت إلى العراق، وعبره إلى العرب جميعاً، طعنة خطيرة عبر إقامة المنطقة الأمنية في شماله (الكردي)، وها هي طعنة أخرى قاتلة توجه إلى الأمة كلها عبر العراق بإقامة المنطقة الأمنية في بعض جنوبه (الشيعي)،
وبينما تمرر هذه الجريمة التي تهدد بتمزيق وحدة التراب الوطني العراقي، تحت ستار الشرعية الدولية وبذريعة معاقبة صدام حسين، فإن درسها واضح وهو يكاد يقدم نموذجاً لما يراد صنعه بالعرب، شعباً وأرضاً، حتى يضمن تغييبهم لأطول فترة ممكنة عن موقع التأثير على مصالحهم ومصيرهم.
إن هذا الذي يجري للعراق يستهدف العرب في كل أرضهم، وهو في بعض جوانبه يلبي مطالب إسرائيل بحصة في نتائج حرب الخليج وبمفعول مستقبلي أيضاً.
ثم إن إقامة هذه المناطق الأمنية يقدم للأقليات، حيثما وجدت، مثلاً يغري فيحتذى… فطالما إن ثمة مظلة دولية تغطي الانفصاليين، إن بذريعة طائفية أو بذريعة عرقية أو حتى بذريعة سياسية (المعارضة في العراق) فلماذا لا تجرب كل أقلية حظها في إقامة “منطقة حكم ذاتي” يمكن أن تصير تحت الحماية الدولية منطقة أمنية تحف بها الخطوط الحمراء من جوانبها كافة؟!
*ثالث الأسئلة عن الجولة الجديدة من المفاوضات المباشرة التي ستفتتح في واشنطن يوم الاثنين المقبل، والتي تريد لها الإدارة الأميركية أن تكون أحد عناوين إنجازاتها الخارقة ليمكنها تسويقها في الانتخابات الرئاسية وتوظيفها سلماً لمعاودة الصعود والتغلب على منافسها الديموقراطي القوي.
هلا دققنا في من هو الطرف الذي سيكون عليه أن يدفع لتحقيق الإنجاز المطلوب، وبالتوقيت المطلوب؟!
… وإذا ما صدقنا ما يتردد عن أن الطرف الفلسطيني قد تم تطويعه فبات جاهزاً لأن يعطي كل ما يطلب منه، مقابل أن يأخذ أقل مما كان معروضاً عليه في أي يوم، فلا بد إذن من أن يكون الطرف العربي القوي الباقي (وهو هنا سوريا ومعها لبنان) ضعيفاً بحيث لا يتهيبه الإسرائيلي ولا يلجم (ولو بالضغط المعنوي القابل لأن يتحول إلى ضغط مادي) الفلسطيني فيمتنع إقرار الصفقة.
لقد اختلف الزمان بين أيار وبين أواخر آب اختلافاً شديداً،
فالنصر الكبير الذي حققته الإدارة الأميركية في الانتخابات الإسرائيلية لا بد أن يدفع ثمنه (مع شامير) الطرف العربي.
كان شامير عقبة كأداء في الطريق، لذا كان لا بد من أن يسقط. أما الآن وقد مسح تماماً عن الخريطة السياسية الإسرائيلية، فإن الضغط سينتقل إلى الطرف العربي.
لا بد من إضعاف “العربي” إلى أقصى حد ممكن لكي يبرر “الفلسطيني” لنفسه، على الأقل، اضطراره للقبول باتفاق الإذعان المعروض عليه،
وللإضعاف وسائل متعددة: الجزائر تشغل بنفسها، وليبيا تحاصر، والعراق يفتت جهاراً نهاراً بينما أهله الأقربون يحرضون عليه، وسوريا تشغل في لبنان ويعاد بعث القوى التقسيمية وتحريكها لإحداث شغب ما.
وليس مهماً أن ينجح الشغب في تحقيق أهداف تلك القوى، التي باتت تردد الآن شعار “منطقة الحكم الذاتي” وكأنه مطلب لها، مدللة بأنها فهمت معنى ما يجري للعراق،
وليس مهماً، بالمقابل، أن تسحق المغامرة الانتحارية الجديدة أبطالها “المتطرفين”، فكتب الرثاء جاهزة، ومعها كل عبارات التشفي بهؤلاء الذين “لم يستفيدوا من دروس الماضي” فعادوا يفرضون على مجتمعهم وبلادهم أن يدفع ثمن حماقتهم وهوسهم بالسلطة!!
لا يقال هذا الكلام لتبرير الانتخابات، التي تظل قابلة للاعتراض والتحفظ، بقانونها وإجراءاتها وسوء الإدارة التي رافقت الدعوة إليها،
وإنما يقال لكي يتركز النقاش على ما يتجاوز الهم الانتخابي العارض، والذي كان أفضل رد عليه أن ينزل المعارضون إلى الساحة ليثبتوا أنهم الأقوى والأكفأ والأعظم شعبية وبالتالي الأجدر بتمثيل لبنان – الطائف، لبنان – الجمهورية الثانية.
للمناسبة: أين أهل الطائف من اتفاق الطائف وحكمه الذي تتقاطع عليه الآن سيوف “الطائفيين”، بأي معنى أرادوا؟!