على امتداد العقدين الأخيرين، بدا وكأن الولايات المتحدة الأميركية اعتمدت سياسة إشعال الحروب الأهلية حيث لا تنفع مؤامرات رجال المخابرات المركزية في إسقاط الأنظمة المعادية، خصوصاً تلك التي لها جذور أيديولوجية وتنظيمات شعبية قوية.
اعتبرت أن “الثورة” هي الإنتاج الشيوعي المرغوب والذي يستهوي الشعوب المقهورة بالاستعمار القديم أو بالحكام الموروثين من أيام النضال التقليدي ضده، فكان الرد “الوقائي” هو تحويل “الثورات” إلى مشاريع فتن واقتتال أهلي وحروب داخلية تشغل “الثوار” بأنفسهم وتفتت مجتمعاتهم.
مقابل أممية الثورة والثوار الذين يريدون تغيير العالم، وبالعنف المسلح، وجد الخبراء الأميركيون طريقهم إلى القوى المحافظة في المجتمعات المعنية، واستخدموا الموروثات العقائدية، بما فيها الدين، بل لاسيما الدين، وأقاموا تحالفات عريضة بين القوى المعادية للثورة بطبيعتها أو بمصالحها… وهكذا رأينا المال السعودي يدعم “الكونترا” في نيكاراغوا، تحت دعوى حماية “النظام” في شبه الجزيرة العربية!!
تم عبور القارات واختلاف الأديان واللغات والقوميات، واندفع النظام الملكي “السلفي” يناصر “مقاتلين” للتغيير بقوة السلاح!!
ونظرة واحدة على خريطة العالم اليوم تكشف كم أن الأيدي الأميركية القذرة متورطة مباشرة في إشعال نيران الحرب الأهلية: من كمبوديا وبورما ولاوس وسيرلانكا إلى كشمير حيث تواجه الهند الباكستان على أساس “ديني”، إلى دول أوروبا الشرقية حيث تمضي الحرب الأهلية “بصمت”، إلى الاتحاد السوفياتي سابقاً، حيث تجري أنهار من الدماء في صراع مدمر بين القوميات والعناصر، وصولاً على يوغسلافيا التي تتشظى منذرة أوروبا الغربية نفسها بأن تخسر حلمها في الوحدة والتقدم إلى مقاعد “القوى العظمى”.
وفي الوطن العربي ثمة أثر أميركي واضح وبين في كل “مشروع” للحرب الأهلية من الجزائر إلى السودان على العراق مروراً بمصر التي ترجها محاولات إثارة الفتنة الطائفية رجاً، من دون أن ننسى لبنان الذي لما تنته حربه كلياً بعد.
لا أيديولوجيات ولا عقائد، لا أديان ولا قوميات، لا أحلام ولا أفكار “هدامة”، لا سيادة ولا استقلال ولا استقواء بالتاريخ والتماسك الاجتماعي،
لكي يعم النموذج الأميركي لا بد من تهافت كل تلك القيم وسقوطها، ولا بد من التنكر للهوية والانتماء القومي والاعتزاز بالذات وبالقرار الوطني المستقل، أو “القومي” أو حتى “الأممي” إذا كان يجنح في اتجاه التغيير.
ففي البلاد البلا تاريخ والبلا قومية والبلا دين إلا القوة، قوة المسدس أو الدولار أو المؤامرة أو الاحتكار الاقتصادي، لا مجال لبدع من نوع العقائد والقوميات والأديان والكرامة الوطنية والنزعة الاستقلالية.
… ها هي بضاعتهم ترد إليهم،
لطالما صدّروا الحروب الأهلية إلى الآخرين، وها هي تجيئهم في عقر دارهم، ومن دون أن يكون متاحاً اتهام الشيوعيين أو الاشتراكيين أو الأصوليين الخ، بإشعالها وتسعير نيرانها كمؤامرة وافدة من الخارج.
إن النظام العالمي الجديد الذي تبدى للشعوب الأخرى في أشكال كثيرة يبلغ أعظم تجلياته في بلد المنشأ.
ومن لا يستطيع ضمان الأمن أو الكرامة لمواطنه، بغض النظر عن لونه أو دينه أو منبته القومي الأصلي، لا يمكنه أن يعد الإنسان في كل أرض بمستقبل أفضل لم توفره الشيوعية أو الاشتراكية أو تلك الأنماط المعروفة من الليبرالية (الأوروبية).
إن أحداث “لوس أنجلوس” عنوان صارخ لمشكلة كامنة ومزمنة قابلة للتفجر في أي لحظة، وقابلة للانتقال كالفيروس بامتداد هذه البلاد التي قامت على أن الأقوى يبقى بعد أن يبيد الأضعف،
وتصور أن تنتظر الشعوب المستضعفة والمقهورة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وكلها ملونة، العدل والخبز والكرامة من حيث يعتبر اللون هو الوطن،
العبيد في الخارج عبيد في الداخل للسيد الواحد، واللون هو مصدر السيادة والغنى والقوة والحق بالهيمنة على العالم، من خلف تمثال الحرية الذي قد يخلع قريباً بسبب لونه … الغامق.