تكاثف الضباب حول صورة الحدث السوفياتي، خصوصاً مع اشتداد الهجمة الأميركية – الأوروبية على القيادة البديلة لغورباتشوف والتي تتكامل حلقاتها عبر الاعلان عن قطع المساعدات المقررة لتتخذ شكل “حصار بالجوع” للإمبراطورية المتهالكة التي كان الجوع بين مبررات “التغيير” فيها.
ولقد استولد رد الفعل الغربي عشرات من الأسئلة والتساؤلات حول “عالم ما بعد غورباتشوف”، أبرزها ما يتصل بالنظام العالمي الجديد، وأخطرها – في ما يعنينا – ما يتصل بالجهد الأميركي لتسوية “أزمة الشرق الأوسط” عبر مبادرة بوش وخطة بيكر وقد تبلورنا، أخيراً، في ما اتفق على تسميته “مؤتمر السلام”.
لقد أعلن الغرب، وبقيادة الولايات المتحدة، الحرب على “التغيير” في موسكو، مندفعاً من رفض الاعتراف بالقيادة الجديدة إلى الضغط لإعادة غورباتشوف، فإذا ما تعذر تعاطى مع رئيس جمهورية روسيا الاتحادية بوريس يلتسين وكأنه “القيادة الشرعية” للاتحاد السوفياتي بكامله.
وهكذا فلقد كان الغرب، وبقيادة الولايات المتحدة، من عمد إلى تجديد الحرب الباردة التي تخوف الرئيس الفرنسي ميتران من تجددها، وشاركه التخوف المستشار الألماني كول ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور وحتى الرئيس الأميركي جورج بوش.
لكأنما كان “التحاق” الاتحاد السوفياتي بالغرب، وتنازله عن نظامه السياسي وعن ايديولوجيته وحزبها القائد وعن استراتيجيته وعن دوره الكوني كقوة عظمى ثانية، هو الشرط الغربي الفعلي لوقف الحرب الباردة ضده،
ولكأنما لا مكان في النظام العالمي الجديد لمن لا يأخذ بالرأسمالية والديموقراطية الغربية وباقتصاد السوق ولا يسلم بعالم وحيد القطب معقود اللواء للقيادة الأميركية.
-أين موقع الشرق الأوسط و”أزمته” من هذه التطورات؟!
-وهل ما زال قائماً مشروع “مؤتمر السلام” الذي حدد له بوش ومن موسكو، حيث كان بضيافة غورباتوشف (ونائبه – بديله ياناييف؟)، تاريخه ومهمته ورعايته ومدى مشاركة الأطراف الأخرى فيه، من دول أوروبا الغربية إلى الأمم المتحدة؟!
-وغلى أي حد يمكن أن يستخدم الإسرائيليون “الحدث السوفياتي” كذريعة للتملص من المؤتمر الذي قبلوا المشاركة (ولو الشكلية) فيه مرغمين وحتى لا يتحملوا نتائج رفض ما يطلبه منهم الحليف الأكبر والمجتمع الدولي بأسره، وبشروط ممتازة لا تختلف كثيراً عن “مطالبهم” الواقعية؟!
-وقبل، هل ما زالت القيادة الأميركية على حماستها لذلك المؤتمر الذي سلمت به محرجة وحتى “تبيع” أصدقاءها العرب الذي غطوا دورها في حربق الخليج “محاولة أخيرة” لطمأنتهم من مخاطر التوسع الإسرائيلي التي يفاقمها استقدام مئات الألوف من اليهود السوفيات بتمويل أميركي إلى الأراضي العربية المحتلة؟!
حسب جريدة “لوموند” الفرنسية فإن “القيادة السوفياتية الجديدة العاجزة عن إلغاء مكتسبات أوروبا الشرقية، قادرة بالتأكيد على فسخ شراكتها مع الولايات المتحدة الأميركية في معالجة الأزمات الإقليمية وخاصة أزمة الشرق الأوسط”.
ومضمون البرقية الجوابية للقيادة السوفياتية على تهنئة بعض القيادات يشكف طموح هذه القيادة للعودة إلى لعب دور دولي فاعل، ولعل اختيار العراق (حرب الخليج) ومنظمة التحرير الفلسطينية لإعلان مثل هذا الطموح أمر بالغ الدلالة.
في أي حال فالمؤكد إن “مؤتمر السلام” معلق مصيره الآن، في انتظار ما تحمله الأيام من تطورات، داخل الاتحاد السوفياتي أساساً ثم على المستوى الدولي،
وبغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة، والتي تمليها طبيعة العلاقات السائدة، فإن هذا المؤتمر كان مرشحاً لأن يعقد برغم أنف معظم الأطراف المعنية فيه،
ولقد جاء الحدث السوفياتي يحرر المحرجين من حرجهم والمرغمين من ضغط “القوة القاهرة” التي أرغمتهم، والباحثين عن مقعد فيه بلا جدوى برغم إنهم أصحاب القضية الأصليون،
فالعرب بمجملهم كانوا سيذهبون إليه باعتباره الخيار الوحيد المتاح، مع وعيهم بأن إسرائيل التي لم تتنازل خارجه لن تتنازل فيه. فالأقوى في الخارج أقوى في الداخل، وميزان القوى – وهو العامل الحاسم – لم يتبدل لكي تتبدل بالتالي مواقف الأطراف.
ومن العرب يتميز الفلسطينيون بأنهم كانوا “مرفوضين” لا رافضين، وكان هذا عامل ابتزاز وإضعاف إضافي للموقف العربي بشكل عام، بل لضربه وتفتيته بإفقاده العمود الفقري لوحدته.
أما الإسرائيلي الذي قدم الموافقة اللفظية والشكلية على الرفض العملي، ماضياً في تقتيل الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم وبناء المزيد من المستوطنات واستقدام المزيد من اليهود السوفيات، فلقد كان يقدم “رشوة” علنية لواشنطن مقابل أن تستأنف ضخ المساعدات والقروض التي يطلبها، وبالذات العشرة مليارات دولار المكرسة لاستيعاب المستقدمين الجدد من يهود الدنيا.
وأما السوفياتي فكان القرار الأميركي بإعطائه دور الشريك الضعيف جائزة ترضية وتعويضاً بخساً عن شطب دوره على المستوى الكوني عموماً وفي حرب الخليج تحديداً، ولم يكن يملك أن يرفض مثل هذا “العرض” الذي يحفظ له ما تبقى من معنويات “القوة العظمى”.
يبقى صاحب المبادرة الأميركي، الذي كان يريد من المؤتمر مجرد انعقاده ليعطيه هذا الانعقاد “براءة ذامة” تجاه حلفائه الاضطراريين العرب، وورقة انتخابية إضافية يحتاجها في معركته للتجديد لبوشبوصفه محقق الانتصار المطلق في الشرق العربي وعلى المستويات جميعاً: العسكرية والاقتصادية والسياسية.
ولعل “زلة اللسان” التي وقع فيها الرئيس بوش عند إعلانه عن الاتفاق مع موسكو على عقد المؤتمر قد كشفت حقيقة نظرته إليه، فهو قد أسماه “المؤتمر الصحافي”، ربما لأنه يريد منه الصورة فحسب، أو هكذا هو تفسير السيد محمد حسين فضل الله لزلة اللسان تلك.
المؤتمر معلق، لأن الأوضاع والعلاقات الدولية جميعاً معلقة، والكل الآن يعيد حساباته، بعد الحدث السوفياتي الذي هز الدنيا وبعثر الملامح الهيولية للنظام العالمي الجديد قيد التأسيس.
ومبكر استخلاص النتائج من حدث ما زال مفتوحاً،
لكن ما يمكن التوكيد عليه أن أحداً في الدنيا لن يكون عربياً أكثر من العرب، ولن يكون معنياً بقضاياهم أكثر مما هم معنيون بها، ولن “يقاتل” بالنيابة عنهم.
ولقد يعود السوفياتي إلى موقعه القديم كحليف من جانب واحد للعرب الشاخصة عيونهم، دائماً، في اتجاه واشنطن،
ولكن، من يقنع العرب بأن يكونوا عرباً، وبأن يسلكوا في السياسة الدولية ما يحقق مصالحهم العليا، سياسياً واقتصادياً وأمنياً؟!
والأهم: هل العرب جاهزون للتغيير، أو للتواؤم مع أي تغيير جوهري على الصعيد الكوني؟!