لم تقم، في أي بلد، حكومة محددة المهمة سلفاً كهذه الحكومة التي ستمثل أمام المجلس النيابي غداً لنيل ثقته… وما أصعب منالها!!
ولم تواجه حكومة مصاعب ومشكلات جدية ومعقدة، فيها النفسي وفيها النقدي وفيها السياسي، كمثل المصاعب التي واجهتها هذه الحكومة في تشكيلتها ثم في بيانها والتي ستواجهها غداً بعد الثقة المضمون نيلها وغير المضمون فعلها في تذليل الصعاب وحل المشكلات الموروثة والمستحدثة، وكلها ثقيل منهك ومربك.
إنها حكومة ولدت والقصف السياسي والإعلامي يطاردها ويلجئها إلى “المتاح” و”الممكن” بدلاً من “المرتجى” والمؤهل للقيام بأعباء المرحلة.
ثم إنها ستذهب غداً إلى المجلس تحت القصف السياسي والإعلامي والعسكري الإسرائيلي (والأميركي)،
ولقد أمكن تفادي قدر من الابتزاز السياسي (الداخلي) خلال التشكيل،
أما في الممارسة العملية فإن الضغط الإسرائيلي المغطى أميركياً مؤثر وشامل بحيث لا يمكن تفاديه والتحرر من ابتزازه المتمادي والذي يطل عبر سطور البيان الوزاري كما عبر مضامينه المبتسرة والتي حاول صائغها المتمكن التعويض عن وضوحها المكلف بالإيماء والإيحاء والغمز بطرف العين حتى لا يؤخذ بكلامه!
لقد مات فيليب حبيب، ومات قبله الاتحاد السوفياتي، والعراق، وتهاوت المقاومة الفلسطينية، واندثرت الرابطة القومية أو تكاد، ولم يعد من مبرر لدور الوسيط… ولذا فإن الأميركي يرفض، من حيث المبدأ، أن يتوسط. إنه يملي فحسب. والسؤال فقط: هل هو يملي على طرفي الصراع أم على الطرف الأضعف، أي اللبناني، والعربي عموماً.
ومع إن وجوه الشبه بين حالة التوتر الجاري حقنها وتصعيدها اليوم وبين تلك التي كانت قائمة قبل عشر سنوات، محدودة جداً، وإن رغب أكثر من طرف في التوكيد عليها واستخدامها ذريعة لاجتياح أو لعدوان إسرائيلي واسع النطاق، فإن الابتزاز ما يزال هو الموضوع: ابتزاز لبنان، وابتزاز سوريا في لبنان، وابتزاز سوريا في سوريا، وابتزاز الفلسطينيين في فلسطين، وبكلمة، ابتزاز كل العرب في مختلف أقطارهم.
إن الإسرائيلي يريد أن يحول المعركة ضد المقاومة الإسلامية – الوطنية التي تقاتل داخل أرضها ولتحرير هذه الأرض، إلى حرب سياسية شعارها: إخراج السوري من لبنان… أو أنه يحاول تسويقها داخل كيانه لأغراض انتخابية بهذا العنوان، كما يحاول أن يخترق بها اللعبة السياسية اللبنانية فيجعلها إحدى نقاط الارتكاز أو أحد المحاور الأساسية فيها.
كأنما هو “مكلف” بمطاردة العروبة و”تطهير” لبنان منها وإعادة الكشف عليه مرة كل عشر سنوات، للتثبت من “نظافته” من هذا المرض واستعادته المناعة المطلوبة.
وإذا استمر الحال على هذا المنوال فقد يقرر الإسرائيلي، قريباً، طرد اللبنانيين أنفسهم بوصفهم “إرهابيين دوليين”،
وهي خطة تبدو مقدماتها في ما حدث ويحدث في جبل عامل وسائر الأراضي المحتلة.
فإسرائيل مستمرة في توسيع ما تسميه “الحزام الأمني”، وهي تقضم بين الحين والآخر المزيد من القرى والأراضي، فارضة على الأهالي خياراً مراً: التهجير (للمرة المائة) إلى حيث لا يعرفون وحيث لا ينتظرهم ولا يستقبلهم أحد من المعنيين والمسؤولين عن حياتهم وأزراقهم ومستقبلهم، وأما الاستكانة للاحتلال وعذاباته اليومية.
وإسرائيل تواصل تطبيعها للعلاقات مع المواطنين من أبناء المنطقة المحتلة: تربط الكهرباء بشبكتها في بعض الأنحاء، توصل خطوط الهاتف بمحولاتها، وتربط شبكة مياه الشفة بشبكتها، وتفتح أبواب “الرزق” للعمال العاطلين عن العمل، فتنقلهم السيارات يومياً إلى مراكز الإنتاج الإسرائيلية وتعيدهم مساء، أو “تطوعهم” في جيشها الرديف بقيادة أنطوان لحد.
بل إن إسرائيل تجهر الآن بمطلبها المباشر: أن تكون ممثلة في الحكم اللبناني وأن تكون لها شراكة في اتخاذ القرار، محتفظة دائماً ومن موقع القوة بحق النقض.
ومن هذا الموقع تضغط إسرائيل ليصبح تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق الطائف (الذي هو في بعض جوانبه، لاسميا التطبيقية، انتصار سياسي سوري) مدخلاً لتحرس حربي يراد منه إلحاق هزيمة سياسية بسوريا مسرحها لبنان بالذات.
وإسرائيل بهذا توسع باب الخروج للراغبين بالخروج من اتفاق الطائف والانقضاض عليه لنسفه، وتوفر الذرائع عبر كسر توازن القوى الذي كان قائماً عند إقراره، والأهم: الذي كان قائماً عند تنفيذ المرحلة الحاسمة منه بإنهاء تمرد ميشال عون.
إنها تضرب في الجنوب لتستولد أصداء في بيروت، وهي أصداء لم تتأخر في الارتفاع وفي خلق جو من التوتر السياسي عنوانه الانقسام حول الوجود السوري بدل أن يكون عنوانه التوحد ضد المحتل الإسرائيلي.
وفي حين يفتقد ضحايا الغارات الإسرائيلية الحد الأدنى من إمكانات العلاج والاستشفاء في النبطية (مثلاً) حيث توجد لافتة لمستشفى حكومي، يشتد الضغط السياسي على الحكومة الوليدة في بيروت لتمييع الموقف من المقاومة حتى لا يسجل كنقطة ضدها في السجل الأميركي قبل السجل الإسرائيليز
إنها حكومة محكومة في حركتها وفي بيانها وفي توجهاتها السياسية.
إنها حكومة انتقالية محدودة القدرات في حين تواجهها ظروف قاسية جداً تصعب مواجهتها وتخطيها فكيف بالتغلب على المصاعب الهائلة فيها.
مع ذلك، يظل ممكناً ومطلوباً من هذه الحكومة التي استولدتها ظروف غير طبيعية أن تحد من تفاقم الأزمة المعيشية ولو بضبط الإنفاق الحكومي… وهذا أضعف الإيمان.
وأبأس ما في الأمر أن يقوم حكم ويمارس وهو ممنوع من الحكم، وأن تنشأ حكومة أعظم مهامها أن تطوي صفحة سابقها وأن تعتبر إنها تنجح إن هي تماسكت وتضامن أطرافها وصمت أقطابها فلم يطرحوا خلافاتهم في الشارع.
في أي حال فإن تضيء الحكومة المكاتب والدوائر والمؤسسات لكي يعمل الموظفون مساء في إنجاز بعض المتراكم والمتأخر من أمور الناس ومصالحهم يمكن قيده في خانة الإنجازات، التي سيرضى بها الناس ولو قليلة لأنهم لا يأملون بالكثير.