طلال سلمان

على الطريق الحكم من منازلهم!

جمدت الحرب ا لأهلية الحكم، وأخلت الساحة السياسية لحملة السلاح باسم حماية “حقوق الطوائف” أو استعادة المضيّع أو المهدور منها.
تحول رموز الشرعية إلى “رهائن”ولزموا بيوتهم حتى لا يعرضوا أنفسهم وما يمثلونه للأذى فتمتهن الدولة فيهم وينكشف ضعفها أمام جمهورها وتتلاشى صورتها كمصدر للأمن والحماية و(الرزق) والمسؤولية الشاملة عن الأرض والشعب والمؤسسات.
صار الفعل للميليشيات الطائفية وانحصر الحكم في دائرة ردة الفعل التي لم تبرأ دائماً من الوتر الطائفي أو من أثر المداواة “بالتي كانت هي الداء”.
الآن والميليشيات تستعد لإخلاء الساحة، بوهج القرار الشجاع لإنهاء “التمرد” بالمؤازرة السورية الحاسمة، صار مشروعأً طرح السؤال المعلق: – أما آن الأوان لكي تستعيد الدولة “الشارع”؟!
أما آن الأوان لأن يعطي الحكم القدوة بأن يباشر أطرافه السلطة من مقراتها وليس من منازلهم؟!
أما آن الأوان لأن يطالب الحكم بإثبات وجوده وممارسة مهماته بشكل طبيعي؟!
ومع التقدير للمخاطر الأمنية المحتملة وضرورة الحيطة والحذر في التحرك فوق “أرض” لم تطهر تماماً من الألغام والأفخاخ والكمائن، فإن حداً أدنى ومحسوباً من الحركة هو شرط لا يمكن تفاديه إذا أراد الحكم أن يستعيد بعض اعتباره المهدور…
وليس جائزاً أن يظل الحكم، وبمختلف مستوياته ودرجاته محكوماً بعقدة الرعب ومشلولاً بالخوف من الاغتيال وبعيداً بالتالي عن جمهوره المتروك للريح والمقادير و”اللي انكتب ع الجبين”!
لكأنما الحكم يخاف من شعبه،
… و”الشعب” لم يتمهل للاطمئنان إلى رفع الألغام فاندفع “يقتحم” المعابر (والمخاط) مستولداً بحركته ذاتها عوامل الاطمئنان، ومحولاً التمني إلى واقع بأن الطرقات جميعاً سالكة وآمنة، وبأنه أخيراً بات تحت مظلة الأمن الشرعي ولن يصيبه إلا ما كتب الله له مما يمكن يحدث في أي بلد من بلاد الله الواسعة يعيش ظروفاً استثنائية.
وبرغم إن زيارة الرئيس سليم الحص للمتنين كانت خاطفة إلا إن أثرها النفسي كان ممتازاً. لقد أحس الناس إنهم ليسوا أيتاماً وإن لهم أهلهم الذين لم ينسوهم والذين… لا يخافون منهم!
ولو إن الحكومة حكومة لكانت جالت – كمرجعية سياسية، أمنية، اجتماعية الخ – في المناطق المستعادة إلى أحضان الشرعية، تتفقدها وتطمئن أهلها إلى أن “الحرب” قد انتهت، لأن هدفها كان إسقاط “التمرد” وإنهاء “العصيان العسكري” فلما هرب “بطله” محتمياً بالأجنبي توقفت العملية العسكرية المحدودة وعادت الدولة لتمارس دورها الطبيعي الذي كانت ممنوعة من ممارسته نتيجة “للتمرد” ليس غلا،
فالأرض أرض الدولة، والجمهور جمهورها، والجيش جيشها بمن فيه أولئك الذين ضللهم “التمرد” وأغواهم فانجازوا إليه وقاتلوا – وحدهم ومن دونه – دولتهم… أي حياتهم ومستقبلهم.
كذلك “فالشعب” هو الشعب حتى لو كان فيه من توهم في “المتمرد” صورة لبطله المفتقد بين أهل السياسة.
ولأن الحكم لم “يحضر” بالقدر الكافي وبالحيوية الكافية وبزخم الشرعية وقوتها غير المحدودة وقدراتها المؤثرة (ولو في دولة فقيرة) فقد بقي “التمرد” حاضراً في صفوف التائهين والمصدومين ومن خاب رجاءهم فيه.
وإذا كان “التمرد” قد عاش فترة بقوة سلاحه (في مواجهة حكم ضعيف الإمكانات لاسيما العسكرية) فإنه يعيش بعد إنجاز 13 تشرين الأول (التاريخي بآثاره البعيدة) بقوة الفراغ.
إنه يعيش حيث لم يصل الحكم، وحيث لم يشكل الحكم المرجعية والمظلة والملاذ الأمني والسياسي والمعاشي.
انتظر المواطن في بعبدا وبيت مري وبعبدات وبكفيا وأنطلياس وجديدة المتن والحازمية أن يجيئه الوزراء في طوابير (تماماً كما انتظر قبله أخوه المواطن في الشياح وعاليه والشويفات ورأس بيروت الخ). وأن يلتقوه فيواسوه ويسألوه عن حاله ويطمئنوه إلى أن الحالة الشاذة قد انتهت وإن غياب الدولة القسري قد مضى إلى غير رجعة، وإنه عاد إلى أحضانها وعادت إلى مسؤوليتها عنه ومن أسرته بجوانب حياته كافة.
انتظر المواطن أن يجيء المحافظ، فيداوم في مكتبه ولو مهدماً، ليجيء معه وبعده كل القيمين على الإدارة ممن هجروها أو جيروها لحساب الميليشيات، فتتحرك ورش العمل لإصلاح ما يمكن إصلاحه أو للمعاينة وحصر الأضرار والوعد – مجرد الوعد – بأن الدولة معنية بأن تعيد بناء ما تهدم،
انتظر المواطن أن يلمح مدير عام قوى الأمن الداخلي يستعرض رجال الدرك والشرطة وقد تجمعوا من جديد ليقوموا بالحد الأدنى من واجباتهم… وانتظام حضورهم أو جمعهم هو بحد ذاته إنجاز وعامل طمأنينة ومصدر لشعور نسبي بالأمان،
لقد انتشر الجيش في مختلف المناطق مؤدياً مهمة دقيقة وناجحة، موفراً المناخ الأمني بالمعنى الواسع للكلمة، أما عودة الحكم وإما عودة الإدارة بأجهزتها المختلفة فكان يمكن أن تؤدي المهمة السياسية المفتقدة وتسد الفراغ المؤذي.
قبل المتنين كان الحكم مقصراً وغائباً إلى حد كبير عن ميدان الإنجاز حتى في مجال الخدمات البسيطة وغير المكلفة والتي لا تتطلب أكثر من القرار ومتابعة التنفيذ، والإصرار والتوكيد عليه بدل أن يكون الإصرار والتوكيد على المخالفات والتجاوزات والفضائح المالية (التافهة)!!
والتقصير في المتنين هو امتداد للتقصير في بيروت وسائر المناطق التي “تعيش” فيها الشرعية برموزها المختلفة،
وأخشى ما يخشاه المواطن أن يكون هذا التقصير قد بات من تقاليد الحكم، وأن يمد ظله غداً على بيروت الكبرى، نواة الجمهورية الجديدة ونموذجها الموعود!
إن كل قطرة مياه سياسية، وبالتالي إنجاز للحكم يحسن صورته ويعيد إليه اعتباره،
وكل كيلوات كهرباء سياسية، وبالتالي إثبات لانتهاء عصر التسيب والتشبيح وانعدام المسؤولية عن أي شي في أي مكان،
إن تواجد الموظفين في مكاتبهم سياسة، وبالتالي استحضار للدولة الغائبة، لاسيما إذا لم يكن الحضور لتقاسم غلة الوظيفة القائمة على استثمار الختم والتوقيع… بمعنى بيع الشرعية للمخالفة وتقنين التجاوز وتغليب الفضيحة بما يجنب مرتكبها المساءلة والحساب.
لقد كان “الحكم من منازلهم” مرحلة. كان اضطراراً وخروجاً على القاعدة والأصول.
وعلى الحكم أن يعلن للناس إن الحرب قد انتهت بخروجه إليهم… بل بعودته إليهم.
لقد آن أن تنتهي صور اللقاءات الهمشرية في صالات البيوت أو الفنادق، وأن تحل محلها صور لقاءات العمل: الرئيس أو المسؤول على رأس الطاولة ومن حولها يجلس المرؤوسون المعنيون وأمامهم ملفات، وللجلسة جدول أعمال ولها نتائج تصدر على شكل قرارات ينفذها من هو في وظيفته أو موقعه لتنفيذها.
لقد آن أن ينتهي هدر الوقت في “الديوانيات” الحكومية التي يختلط فيها البيت بالمكتب بالنادي ويمكن تحويل طاولة الطعام إلى مكتب وإلى طاولة خضراء متى انفض الثقلاء من المراجعين.
إن للدولة صورة نسيها الناس لطول ما غابت عنهم، وهم حتى الآن يفتقدونها وينتظرون عودتها،
وللحكم هيبته وحضوره وحركته التي توصله إلى الناس وتربطهم به.
وليس حاكماً ذلك العاجز عن العقاب والذي يدفع الثواب مضطراً أو مدارياً أو تحت ضغط الابتزاز
إن الظرف استثنائي.
وهذا ادعى إلى أن يكون الحكم استثنائياً في قدرته على الإنجاز.
والحكم من منازلهم استثناء يجب أن ينتهي توكيداً لانتهاء زمن الحرب… عند الدولة!

Exit mobile version