طلال سلمان

على الطريق الحكم بالدولار!

دخل الدولار ساحة اللعبة السياسية من الباب العريض،
وهو كان موجوداً وفاعلاً فيها على الدوام، ولكنه كان مموهاً، متلطياً، وعينياً وليس نقداً، بمعنى أنه كان ينهمر على شكل سلاح وذخائر وعتاد وتجهيزات تكنولوجية للاتصالات والتسديد والتجسس وما إلى ذلك من عدة النصر المبين!
كانت الدفعات النقدية لأسر الشهداء فقط، أما الأحياء فتلبى احتياجاتهم الميدانية، بالغة ما بلغت تكاليفها، حتى إذا ما قضوا نحبهم حولوا إلى الصندوق لكي نقبض ذرياتهم الصالحة ما يجعلها تترحم عليهم!
اليوم، دخل الدولار كدولار: عملة أميركية، صراحة، تعطي هويتها لحاملها ولا تتركه يستخدمها لما يخدم هويته… الأصلية!
والدولار، من القوة والعياذ بالله، بحيث يستطيع تطيير حكومات، وتمرير استشارات، وتزيين تكليف وتعقيد تاليف،
يكفي تأمل ما جرى في الأيام القليلة الماضية لاكتشاف مدى فاعلية الحسابات الجارية والأموال النقدية في اللعبة السياسية.
فأيار هو شهر الانتفاضة وعيد العمال والشغيلة،
وأيار أيضاً هو حلبة السباق التي نزل إليها الدولار منادياً: هل من مبارز، هل من مناجز، فلم يخرج أحد إليه!
ومن قديم كان الصهاينة يرفعون في الولايات المتحدة الأميركية شعاراً عنصرياً شهيراً لتمويل أسباب القوة لدى الكيان الإسرائيلي هو: ادفع دولاراً تقتل عربياً!
أما اليوم وفي بيروت فيمكن القول: ادفع دولاراً تسقط حكومة،
وربما يقال في غد، وإذا ترك المسرح فارغاً: ادفع دولاراً تسقط عهداً، وادفع أكثر تفبرك عهداً جديداً!
فسيف الدولار بحدين، وربما بثلاثة، وقد يكون بعشرة. إنه في الغالب يملك من يملكه، وهو في العادة يرتد إلى مطلقه، وهو دائماً يأخذ حامله إلى مصدره. والمصدر من أتباع فلسفة البدائل و”الرجل القوي”، وليس أسهل عنده من الانتقال من “قائم” إلى “محتمل” ومن “صديق ضعيف” إلى “خصم قوي يمكن اكتسابه”، بالنار أو بالدولار القهار.
ثم إن الدولار يعمل في الاتجاهين: يصعد بمن “معه” صعوداً ويهبط بمن “عليه” هبوطاً.
كذلك فهو، كأي سلاح فعال، يغري باستخدام مداه ودقة تصويبه وقدرة الاختراق في طلقاته… الهامسة!
ولأن الدولار خارق حارق فكثيراً ما أغرى “من معه” على تخطي الحواجز الوهمية بين الاقتصاد والسياسة ودخول المسرح من بابه العريض، مطمئناً إلى أن “سحره” لا يقاوم وإنه – استغفر الله – يستطيع أن يقول لأي كان ولاي شيء: “قم فيقوم”، أو “زل فيزول” أو “كن فيكون”!
ولطالما عرض السماسرة والعاملون بالقومسيون لبنان – بعضه أو كله – للبيع.
ولطالما برع هؤلاء في بيع المواقع (والمواقف) داخل الوزارة أو داخل الإدارة أو حتى داخل البيوت،
ولربما كان على المنتفضين في 6 أيار ألا يكتفوا بمطاردة المسؤولين (علناً)، ومحاصرة بيوتهم، وتحطيم بعض واجهات المصارف وبعض أكشاك الصيارفة…
ربما كان عليهم أن يقصدوا من جعلوا البلاد وأهلها سلعة أو عقاراً مطروحاً في مناقصة يمنع من التقدم إليها إلا نخبة النخبة من حملة الدولار،
وربما كان على اللبنانيين جميعاً اليوم أن يستعيدوا اعتبارهم وأن يثبتوا إنهم ليسوا للبيع أو للإيجار،
فالسيادة والاستقلال والكرامة والعنفوان الخ كلها يمكن أن “تقرش” وتباع،
والدولار أفعل من جيوش الاحتلال والاستعباد، بل لعله ياتي في رأس قائمة قوى القهر والإذلال.
المهم أن الدولار يقاتل الآن على أكثر من جبهة،
فبعض حامليه يقاتلون من “الداخل” حتى لا يخرجوا فيخسروا مصادر القوة وتنكشف “إنجازاتهم” العظيمة،
والبعض الآخر يقاتل حتى “يدخل” ليستكمل أسباب الوجاهة والسطوة والنفوذ… فهو قوي جداً لكنه بحاجة إلى واحد من ألقاب التفخيم ليقتنع، ربما، بأنه مهم ونافذ وسوي وليس أقل من الذين كانوا اسياداً (له ولغيره) بسبب النسب والدم الأزرق.
إنه يعرض الدولار لتبديل دمه من الأحمر (البائد، مع الشيوعية) على الأزرق… الغامق كما بحر الظلمات.
الدولار في عقر الدار، والدار فقيرة وأهلها ينحدرون نحو العوز… فمن عاصمهم من هذا الغول؟!
والمعركة الآن تحدتم، وأيما احتدام، بين أحزاب الطوائف والمذاهب وحزب الدولار.
والدولة حجر بين شاقوفين،
والحكم على أرجوحة من نار،
والحكومة مروحة واسعة قد تزيد ريحها النار اشتعالاً في جسم الحكم بدل أن تبرده وتطفئها،
مع كل ساعة تمر يتزايد الضغط وتعنف الاشتباكات بين الطائفيين والدولاريين، مع العلم أن أهل الدولار لم يكونوا في يوم خصوصاً للطائفيين بل لطالما دعموهم حتى جعلوهم مذهبيين متشددين إلى حد الأصولية!!
مع كل ساعة يسقط اسم غير محصن بما يكفي من الطائفية أو المذهبية أو الدولارية، ويحل محله اسم آخر “وضاح المحيا”.
ولقد أسقط الدولار وروح الثأر والاستنفار الطائفي والمذهبي بعض وجوه المجتمع المدني من الحكومة الكرامية، وأبعد بعض رموز الحياة الطبيعية،
وهكذا ستأتي الحكومة الجديدة أكثر “عسكرة”، فالميليشيات فيها أشد نفوذاً وأعظم “تمثيلاً” على حساب “المدنيين” والذين عملوا لتوفير مزيد من النور (والمياه) للبلاد التي أطفأتها الحرب!
والميليشيات تدولرت قبل الليرة بزمان،
فالعلاقة بينها وبين المصارف والمتمولين وأصحاب الصفقات علاقة “شركاء لا أجراء”،
وهكذا تقاطعت سيوف الدولاريين بالوراثة أو بالاكتساب أو “بالكساب الوهاب” أو “بفرض الجزية”، على المواطنين البؤساء الذين تتناقص أرغفتهم مع كل مطلع شمس،
… والأرجح أن تطبع الصورة التذكارية للحكومة الإنقاذية الجديدة، حكومة الشبع والطمأنينة، على دولار أخضر لتوحي الثقة المطلقة لكل من يبحث عنها في الداخل والخارج… ولاسيما الخارج!

Exit mobile version