لكأنها إشارة إلى قيام “الحكم المصفح” في لبنان!
فهذه الورشة التي استبقت وصول “رئيسها” إلى مقر مجلس الوزراء فانهمكت في تعزيز وسائل حمايته، مستبدلة الزجاج العادي بزجاج لا يخترقه الرصاص، مصفحة الجدران الإسمنتية بالحديد ورقائق الفولاذ، إنما هي إعلان عن مرحلة جديدة وعن توازن مختلف لمواقع السلطة في لبنان.
والحق إن موقع رئيس الحكومة يحتاج إلى “التصفيح”، ربما بأكثر مما يحتاج مكتبه في “السراي” التي ابتناها الأتراك مدرسة للصنائع ثم تحولت في ظروف الحرب الأهلية إلى “قصر حكومي”.
إن رئاسة الجمهورية محصنة، بقوة الدستور كما بقوة العرف وهو غالباً ما يكون أعظم أثراً في الحياة اليومية من دستور لا يتم اللجوء إليه إلا اضطراراً وعند افتراق الطرق بين الحاكم والمحكوم.
كذلك فقد غدت رئاسة المجلس النيابي محصنة ومصفحة بقوة اتفاق الطائف والدور التأسيسي الذي أنيط بالبرلمان لإقامة ما يسمى “الجمهورية الثانية”،
ثم إن الزمن يحصن الرئيسين الأول والثاني: فرئيس الجمهورية تمتد ولايته لست سنوات، ورئيس المجلس النيابي لأربع سنوات، في حين يبقى رئيس مجلس الوزراء، الذي أنيطت به السلطة الإجرائية، عرضة للتغيير مع أول تبدل في المزاج ومصدر الرياح وتناقض المصالح… الشخصية!
وإذا كان الرئيس المكلف للحكومة العتيدة “استثنائياً” في مواصفاته الشخصية وعلاقاته العربية والدولية، فإنه سيواجه في مهمته الاستثنائية في صعوبتها مجلساً استثنائياً في طبيعة قاعدته التمثيلية المختلفة نوعاً إن في الخطاب السياسي أو في عمق المنطلقات العقائدية التي تملي المواقف بعيداً عن المألوف في التحالفات الهشة والظرفية وذات الطبيعة الشخصية والمصلحية في الغالب الأعم.
لكأننا أمام مرحلة حكم الآتين من البعيد.
فالرئيس المكلف الذي بدا وكأنه نزل بالمظلة بعد رحلة طويلة، آت من البعيد، ولو أنه كان دائماً قريباً من مركز القرار ومن صناع القرار في لبنان ومحيطه القريب والعواصم الأخرى المعنية بأموره، على بعدها.
وثمة نسبة كبرى من النواب الجدد تحمل على جباهها وفي خطابها ومفرداتها غبار السفر الطويل بين المحظور والمسموح، بين الممنوع بقوة القانون وموقع إصدار القانون.
إن العديد من هؤلاء الشبان والمخضرمين آتون من البعيد،
وهم قد وصلوا – مثل الرئيس المكلف – في ظروف استثنائية وبعشارات مغايرة للمألوف في “المعارك” الانتخابية.
إنه مطالب بالكثير،
وهم مطالبون بأكثر مما يطلب منه.
هو أمام امتحان قاس، وهم أمام امتحان أقسى،
وإذا كانت إمكاناته الشخصية ورصيد العلاقات التي بناها على امتداد عشر سنوات وأكثر، ستفتح له الطريق عريضاً في البداية، فإن الظروف التي ستواجهها حكومته ستكشف كم إن هذه الطريق التي تبدو الآن مفروشة بالورد والتمنيات الطيبة كثيرة المزالق والأفخاخ والكمائن ومليئة بالعوسج والأشواك.
وإذا كان شخص الرئيس المكلف قد حظي بترحيب دولي سريع وملحوظ فإن المجلس النيابي الجديد والغني بالآتين من البعيد فيه، وجلهم من أهل العقائد والأيديولوجيات الصلبة، قد حظي باعتراف دولي ومباركة بالحضور الشخصي لرموز القرار الدولي تكاد تشكل سابقة في تاريخ البرلمان اللبناني.
لقد استهلك الانبهار بشخص الرئيس المكلف وحكومته العتيدة التعليقات والتحليلات والتوقعات، حتى كاد الجميع ينسون “القوة الموازية” التي قد تكون مكملة وقد تكون لاغية والممثلة في المجلس النيابي الطامح إلى دور لا يقل “تاريخية” عن دور “بياع الخواتم” الذي وصل أخيراص إلى مبتغاه في سراي الحكم.
قلة من الناس هم الذين انتبهوا إلى النبرة المختلفة في كلام العديد من النواب الجدد الذين اغتنموا فرصة المشاورات النيابية للإعلان عن وصولهم – هم أيضاً – إلى “مصدر الحكم” باعتباره حدثاً استثنائياً مرشحاً لأن يكون بداية لمرحلة مختلفة تماماً.
لقد جاء الذين كانوا غائبين أو مغيبين.
جاءوا من قلب الماضي، كما جاء آخرون من حيث يزعمون إنه قلب المستقبل،
جاء بعضهم من الأرض، من الجرح النازف، من بؤرة الظلم الدائم والاضطهاد على شبهة الانتماء إلى منطق آخر،
وجاء البعض الآخر من قلب الوعد بإنصاف المغبون ورفع الظلم وإسقاط الخوف وإنهاء الحرمان الذي تحول إلى سنة للحكم في ماضيه.
ولسوف تكون المواجهة شديدة بين منطقين ونهجين وأسلوبين في النظر وفي العمل،
لقد نال كل “حصته”، ولم يعد أحد في الخارج،
و”التوازن” الجديد بين السلطات لن يتحقق إلا عبر معركة لن تتسم هذه المرة بالطابع الشخصي، ولكنها ستكتسب مضامين سياسية مختلفة،
وفي العادة كان رئيس الجمهورية هو الذي يدير لعبة الصراع بين المجلس والحكومة، بما يمكنه دائماً من الإمساك بزمام المؤسستين الدستوريتين ويجعله “الحاكم المطلق”،
لكن الصراع غداً سيكون مختلفاً جداً، ولن يكون لرئيس الجمهورية مثل هذا الدور، بل لعله سيلجأ إلى تبهيت دوره عمداً، في انتظار نتائج الصراع المرير بين هاتين المؤسستين المتوافقتين عند القمة المختلفتين بالضرورة عند القاعدة.
وقديماً قيل: بالنار يمتحن الذهب وبالذهب يمتحن الرجال.
وسيكون الامتحان غداً فريداً في بابه بين هؤلاء الآتين من البعيد وقد صفح بعضهم نفسه بالذهب وصفح بعضهم الآخر نفسه بعقيدة يفترض أن تكون أقوى في سحرها من الذهب الإبريز!
و”الحكم” قائم دائماً، وحاضر دائماً، لإعادة التوازن بين المتنافسين حتى لا تفسد اللعبة ولا يسقط أي من اللاعبين قبل الأوان.