الأرقام ليست مثل الحكام: إنها لا تقول الشيء ونقيضه، ولا تبيع الأوهام، ولا تزوّر الواقع، وتبقى حيدتها أو برودتها موجعة.
ولو أن رئيس حكومة النهوض الاقتصادي يتعاطى مع الأرقام “التافهة” كمثل كلفة الحياة اليومية، لما كان أمكنه أن ينسب “الضائقة” التي يعيشها اللبنانيون إلى الأحقاد وسوء النية والتآمر على دولته وغير ذلك من التعابير التي تخلو منها جميع المؤلفات والبحوث والإحصاءات والجداول المتصلة بالاقتصاد.
الرقم الموجع بصدقه هو الذي يستولد الحقد الطبقي الذي يمكن أن يبني إمبراطوريات كما يمكن أن يهدم إمبراطوريات،
ولو أن دولته يدفع بنفسه، ومن دخل طبيعي، كرئيس حكومة يعيش من مرتبه، مثلاً، أقساط المدارس أو الجامعات لأبنائه (مع النفقات الإضافية والاستثنائية، ومن بعد ثمن الكتب والقرطاسية)…
ولو أن دولته يدفع بنفسه فاتورة الكهرباء، مثلاً، وفاتورة الهاتف، وثمن الحاجيات البسيطة التي يتكون منها طعام العائلة اليومي،
ولو أن دولته يدفع بنفسه ومن مرتبه الطبيعي ثمن السيارة وكلفة الانتقال، والميكانيك، والتصليحات،
ولو أن دولته يدفع بنفسه، ومن مرتبه الطبيعي، ثمن ملابس أفراد عائلته وملابسه الشخصية،
ولو أن دولته يدفع بنفسه، ومن مرتبه الطبيعي، كلفة “الفنطزة” أو “الفخفخة” كأن يزور أهله خارج بيروت، مثلاً، مرة في الأسبوع، أو يرفه عن أسرته بعشاء في مطعم، أو يأخذها في نزهة على الطبيعة (مع تدقيق في المواقع حتى لا يجلسوا فوق برميل نفايات سامة)، ويشتري لها لحماً غير مسموم، بعض الفاكهة…
لو أن دولته يتعاطى مع الأرقام “التافهة” فيضطر لأن يدفع من مرتبه الطبيعي كلفة الطبابة (حماه الله من أي مرض) أو لاأدوية، قبل أن نصل إلى الاستشفاء الذي قد يتحول من إنقاذ لمريض إلى سبب لاعتلال صحة العائلة جميعاً بسبب ذل العجز أو ذل الدين،
لو أن دولته يتعاطى مع “الأرقام التافهة” ويدفع من راتبه الطبيعي كلفة تأمين سكن عادي جداً لابنته أو لابنه إذا ما خطرت لأي منهما فكرة مجنونة كالزواج، أو الاستقلال عن الأهل استعداداً ليوم الفرح المرتجى،
لو أن دولته، زاده الله غنى، يعيش من مرتبه وعلى مرتبه الطبيعي، لما كان تورط فقال ما قاله أمس الأول في مأدبة العشاء التكريمية لمؤتمر أطباء الأسنان.
الأرقام لا تعرف الحقد، وليست مضطرة لأن تنافق الحكام،
وصحيح أن بعض الموظفين يزوّرون فيها أحياناً إيهاماً لجماعة “الأرقام التافهة” من بسطاء الناس أو استرضاء للحكام،
وصحيح أن بعض المعارضين قد يستغلون الرقم لأغراض سياسية،
لكن الرقم الأصلي يظل هو الرقم، لا يتبدل خوفاً من سياف الحكام ولا ينفخ نفسه ليصير سيفاً في يد المعارض،
كيف السبيل إذاً إلى تفاهم بين ثلاثة ملايين مواطن يتعاطون مع “الأرقام التافهة” يومياً، وبين رئيس حكومة أعطاه الله فصار قادراً على أن يطمئنه إلى أنه قادر على إسناد المصرف المركزي والتعويض عنه لو أنه عجز أو قصرت موارده عن الوفاء بالتزاماته؟!
المشكلة في الرقم الموجع وليست في العواطف، حاقدة كانت أو مشبعة بالود.
والمشكلة أن الخطاب الفخم لن يبدل من حال اللبنانيين، فالراتب سيظل هو الراتب، ولن تقبل المستشفيات أو المدارس أو الدكاكين أو الكارجات أو أصحاب الشقق أن تتقاضى من جماعة “الأرقام التافهة” كلمات رنانة الوهج قالها من لا يتعامل إلا بالأرقام من ذوات الستة أصفار إلى اليمين؟!
إلا إذا ارتأى دولته أن يوزع من خطابه أسهماً على المواطنين، كمثل بطاقة الاعتماد، يدفعون منها أكلاف حياتهم فتصفو قلوبهم وتحسن نواياهم ويندثر الحقد والحاقدون؟!
ملحوظة: من لديه نسخة من الخطاب فليحفظها فقد تكون له بمثابة ليلة القدر. مبروك!