بشيء من التأني في القراءة يبدو الترابط واضحاً بين مجموعة من الأحداث الدراماتيكية التي توالت على المنطقة العربية، ويسهل الاستنتاج، وتبين ملامح الغد الذي يرسم لها.
فبين ما يجري الآن في الجزائر، وما يجري بالمقابل في واشنطن صلة رحم لا تقل عضوية عن تلك القائمة بينهما وبين مسببات “عاصفة الصحراء” ونتائجها، وهي – عملياً – كصلة الوالدة بالمولود أو الماء بالنبع أو الضحية بأداة القتل والجانب.
الهزيمة لا تعاني من العقم، بل هي ولود تنجب كل يوم مزيداً من القيم المشوهة والمفاهيم المغلوطة والأعذار السقيمة المبررة للإخفاق كما للاستسلام.
والنصر، على الجانب الآخر، لا يكف عن استيلاد النتائج المحققة لأغراض أصحابه، في الحال والاستقبال، وتحويل العارض إلى دائم والمؤقت أو الاستثنائي إلى قاعدة أبدية تضفى عليها هالة من القدرة المقدسة!
الاستسلام العربي هو المطلب الغربي – الإسرائيلي.
ولعله، في هذه اللحظة، إحدى الركائز الضرورية لقيام “النظام العالمي الجديد”، لاسيما إذا ما روعيت تلك العلاقة الخاصة جداً بين العروبة والإسلام.
من هنا فليس اعتباطاً القول بأن “الانقلاب” في الجزائر هو “تدبير وقائي” يسبق احتمالات التغيير في المنطقة العربية أو في العالم الإسلامي برمته، كرد فعل على الهزيمة الساحقة التي ألحقها الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بالعرب والمسلمين جميعاً، سواء من التحق بصدام حسين ومغامرته الحمقاء في الكويت أو من قاومته وناهضه وصولاً إلى حمل السلاح ضده لمنع الخطأ أو حصر الضرر، وهذا أضعف الإيمان.
ومن أجل إجهاض احتمالات التغيير لم يتوقف الغرب كثيراً أمام شعاره الأثير الذي يسوقه ويعتمده معبراً إلى العالم الخارج على إرادته (المعسكر الاشتراكي سابقاُ، ومجمل أقطار العالم الثالث)، وهكذا سحق “الديموقراطية” لكي يمنع “الإسلاميين” من تحقيق انتصار سياسي باعتماد قانون الصراع الطبيعي، وبالوسائل السلمية وبالأساليب الغربية.
ممنوع التغيير في الاتجاه المعادي لمصالح الغرب (الأميركي – الإسرائيلي) سواء بالديموقراطية الغربية أم بالموروث الديني الشرقي،
تماماً كما هي ممنوعة “القوة” بأسبابها كافة، التقليدية أو النووية، على الذين يرفضون وجود الكيان الصهيوني أو يتمنعون عن “مصالحته” بالاستسلام لشروطه.
في العراق تدمر الدولة ويسمح للنظام بتمزيق الشعب وإبادة المدن والقرى والدساكر المنتفضة ضده، ولكن بحرص شديد على بقاء الحاكم المغامر المهووس الذي تسبب في الهزيمة، بحيث يكون استمراره ذريعة للمضي قدماً في التدبير المنهجي للعراق دولة وشعباً وأرضاً.
في عراق مدمر لا بأس بوجود الدكتاتور، بل لعله ضرورة لاستكمال لعبة الابتزاز المفتوحة للحكام الآخرين في الجزيرة والخليج، فبعد شطب العراق كقوة استراتيجية (عسكرية واقتصادية وبشرية) يسهل أخذ تلك الأقطار الغنية رهائن واستخدام ثرواتها الهائلة في الاتجاه المضاد تماماً لأماني أهلها وأخوانهم العرب الفقراء في الأقطار الأخرى.
وهكذا يوظف النفط ضد فلسطين، بدلاً من أن يكون في خدمة قضيتها،
ويتحول العراق إلى عبء قومي بدل أن يظل رصيداً ممتازاً يفتح الباب لاحتمالات تعديل ميزان القوى في اتجاه التوازن الاستراتيجي بين العرب وعدوهم القومي ، إسرائيل.
وفي جزائر منهكة بالأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، ومهتاجة بمشاعر المرارة وخيبة الأمل ومستفزة بالتحدي الغربي الذي لا يتورع عن توجيه الإهانات والتعبير عن احتقاره للعرب والمسلمين،ممنوعة الديموقراطية إذا كانت ستحمل إلى السلطة من هو مشبع بإرادة التغيير وتحطيم الواقع المذل القائم.
ممنوعة القوة، عسكرية كانت أو اقتصادية أو حتى قدرات بشرية معززة بالعلم والخبرة المكتسبة من الأكثر تقدماً،
وممنوع توظيف الموارد الطبيعية في خدمة الأهداف والطموحات المشروعة لهذه الشعوب المسحوقة بالقهر الاستعماري والتخلف وقمع الأنظمة الاستبدادية،
وممنوعة الديموقراطية كأداة تغييير سعياً إلى غد أفضل،
وفي كل الحالات ممنوع توكيد الهوية القومية التي يشكل الإسلام عند العرب خاصة ثم عند معظم الشعوب المسلمة، مكوناً وجدانياً وحضارياً ودافعاً إلى التحرر من القاهر الأجنبي كما من السطلان الجائر.
إن المفاوضات بين العرب المثقلين بهزيمة العراق في مغامرة الخليج وبين الإسرائيليين الذين التزموا بالأمر الأميركي فلم يدخلوا الحرب مع تعهد بأن يخظوا بنصيبهم الممتاز من الغنائم، هي إحدى الثمار المرة لذلك النصر الغربي الساحق على العرب مجتمعين قبل سنة كاملة.
… خصوصاً وإن تلك الحرب قد زادت من الانقسام بين العرب، ومزقت تضامنهم الهش، بل لعلها قد شطرت كل عربي إلى اثنين،
وهكذا فإن إسرائيل لا تواجه وفداً عربياً واحداً أو مشتركاً أو وفوداً متكاملة ومنسقة الحركة والمواقف،
ولعل أبشع آثار الانقسام هي تلك التي يعكسها الموقف الفلسطيني المرتبط والمسكون بهواجس الخوف من “ضياع الفرصة الأخيرة” يقابلها الذعر من احتمال التوريط في تفريط لا يمكن غفرانه أو تجاوزه مستقبلاً.
كذلك فإن “الانقلاب” في الجزائر هو ثمرة مرة أخرى من ثمار الهزيمة، بغض النظرعن نوايا المتواطئين فيه، إذ أنه محاولة لإقفال الباب كلية – وبالدبابات – أمام احتمالات تغيير الواقع العربي – الإسلامي المهزوم،
هذا مع التنويه بأن التحفظات العربية – الإسلامية، ومن منطلق قومي وديني، على توجهات جبهة الإنقاذ وشعاراتها وخطابها السياسي في الجزائر، قد تكون أقوى وأكثر وجاهة من تلك التي يبرر فيها النظام أقدامه على هذه الخطوة القمعية بتحريض من الغرب وتلبية لطلب مباشر منه.
وقديماً كان عرب الجاهلية يندون بناتهم، خوفاً من عارهن المحتمل.
… وها هو غرب القرن الواحد والعشرين، بنظامه العالمي الجديد، يحرض على وأد أعظم “إنجازاته” الحضارية: الديموقراطية، خوفاً من فعلها المحتمل في تقدم العرب والمسلمين،
لكأنما الديموقراطية امتياز “غربي” لليهود وسائر الأقليات العرقية والطائفية في دنيا العرب، أما الأكثرية فلا يحق لها أن تتذوق هذه الثمرة الشهية… المحرمة.
والحرب مفتوحة، بعد، على العرب والمسلمين في مختلف ديارهم من الباكستان إلى موريتانيا، بشهادة هذا الذي يجري في الجزيرة والخليج والعراق وفلسطين وصولاً إلى الجزائر التي انتصرت بالعروبة والإسلام على المحتل – المستوطن الأجنبي ثم أضاعت الطريق والهدف وها هي عرضة لأفدح الأخطار وأبشع الاحتمالات.
ومخطئ من يفترض أنه بالاستسلام لإسرائيل يتفادى مثل هذه الحرب المعلنة عليه كائناً ما كان موقفه ومدى التزامه إزاء النظام العالمي الجديد،
فلا مكان للعرب والمسلمين في هذا النظام إلا كمجموعات من العبيد بلا رأس وبلا قضية.