خلال 24 ساعة تلقى المواطن العربي لطمتين موجعتين تمسان أعز ما تبقى من تراثه القومي والوطني:
*اللطمة الأولى تمثلت في الغارة الإسرائيلية على تونس، مقر آخر رموز التوجه نحو الحد الأدنى من العمل القومي، الجامعة العربية، الحاضنة الشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية بدلالات اسمها وليس بواقع ممارسات قيادتها السياسية.
*واللطمة الثانية تمثلت في خطف الدبلوماسيين السوفيات الأربعة، واستمرار احتجازهم وصولاً إلى التجرؤ على قتل بعضهم.
والاتحاد السوفياتي، في وجدان المواطن العربي، ليس مجرد دولة عظمى، بل هو صديق القضايا القوميثة ونصيرها والمدافع عنها، حليف حركة الثورة العربية ومعينها، المساهم في تمكين العرب من بناء غدهم الأفضل واقتحام العصر وحماية هذا التقدم (من إمدادهم بالسلاح حين عز السلاح إلى المشاركة في بناء السد العالي، إلى تزخيم التصنيع وإرساء أسس البنى التحتية في أكثر من قطر عربي ومصر أولاً).
ولأن الاتحاد السوفياتي هو صديق بطل حركة النهوض القومي وقائد حركة التحرير العربية، جمال عبد الناصر، ونصير كل الثوريين العرب في مختلف أقطارهم، والفلسطيني منهم على وجه الخصوص ، فقد اكتسب نوعاً من الحصانة لم تكتسبها أية دولة أخرى، وصار الاعتداء عليه عبر رعاياه كما عبر سياسته اعتداء على مجمل هذه المعاني والقيم.
ولهذا كله يصعب التصديق أن تتجرأ على الاتحاد السوفياتي مجموعة محلية أو عصبة من المتطرفين، ناهيك بأن الجوانب “الفنية” للعملية المزدوجة ضد الدبلوماسيين الأربعة تؤكد أن المنفذ جهاز قادر ومتمكن ويملك وسائل التمويه وحماية عناصره، ويستهدف أولاً وأخيراً ضرب صورة الاتحاد السوفياتي وصداقاته العريقة في دنيا العرب، شعباً ودولاً، وصولاً إلى الدور السوري في لبنان مستخدماً طرابلس كذريعة ليس إلا.
وكيف يمكن أن تفيد طرابلس الجريح من اعتداء على العرب جميعاً عبر التعرض لصديقهم الأكبر والأفعل في العالم؟!
إنهما غارتان في يوم واحد: أداة الأولى إسرائيلية والغطاء أميركي يتكئ على موقف المتخاذلين من الحكام العرب، وفي طليعتهم الحكم التونسي المشغول بحربه ضد الجماهيرية العربية الليبية… وهو قد هدد الليبيين صراحة بالأميركيين إياهم، الذين برروا الغارة الإسرائيلية على تونس ووفروا لها الغطاء السياسي.
وأداة الغارة الثانية محلية، ربما، لكن غطاءها أيضاً أميركي يتكئ على الواقع العربي المهترئ الذي يعكس نفسه عبر حالة التمزق والضياع والاقتتال التي يعاني منها لبنان، وهي حالة مرشحة لأن تنقل التصادم ليس فقط إلى داخل الصف الواحد بل حتى إلى داخل البيت الواحد طالما تعذر الوصول إلى الحل المرتجى والمنشود المسمى بـ “الخيار العربي” الذي ترعاه سوريا بوصفها سوريا أولاً ثم بوصفها الجهة الوحيدة المؤهلة والقادرة على رعايته.
غارتان في يوم واحد اختير توقيته بعناية فائقة تؤكد التلازم في الاستهداف:
** فهما تجيئان في وقت بدا فيه وكأن الأطراف الفاعلة اللبنانية تقترب من باب الحل المفترض، في دمشق وعبرها.
** وهما تجيئنان مع توافد دعاة السلام الإسرائيلي – الأميركي من حكام العرب على واشنطن، لبيع ما تبقى من رموز الصمود في الصراع العربي – الإسرائيلي، وآخر الصفقات في هذا المجال صفقة المليار وتسعماية مليون دولار سلاحاً للملك حسين لكي يتخطى في التنازل حتى اتفاق عمان، مصحوباً بشريكه في هذا الاتفاق البائس، القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
** وهما تجيئان مع الاطلالة الأولى للقيادة السوفياتية الجديدة على العالم، عبر زيارة غروباتشوف لفرنسا التي بدأت أمس مسبوقة بهذا الاعتداء على هيبته ورصيده لدى أصدقائه المفضلين من العرب.
غارتان في يوم واحد: هذا كثير، ولكن ربما كان بين دلالاته إننا نعيش ربع الساعة الأخير من عمر هذه الحرب المفتوحة في لبنان.
فالخصم لا يلجأ إلى الضرب تحت الحزام إلا متى استشعر خطر احتمال جدي بأن يخسر الجولة،
لكن السؤال الكبير يبقى: هل نحن قادرون ، بعد، على تحمل نتائج اللطمتين الموجعتين، والمضي قدماً على طريق الحل الذي من جملة دلالاته – إذا ما تم – أن يغير كثيراً من المعطيات التي تحكم مسيرة الصراع العربي – الإسرائيلي ، في هذه المرحلة؟!
وفي بيروت، كما في دمشق، الجواب على هذا السؤال الكبير.
فإذا كانت الغارة اأولى تستهدف الجامعة العربية وفلسطين اللاجئتين اضطراراً إلى تونس التي لم تكن متحمسة لأي منهما يوماً، فإن الغارة الثانية هي على دمشق التي لجأ إليها لبنان اختياراً ليحتمي بصمودها من مخاطر الانهيار تحت ثقل العصر الإسرائيليز
والاتحاد السوفياتي المستهدف هو بالتحديد السند الدولي الأساسي لهذا الصمود المانع لسيادة العصر الإسرائيلي – الأميركي المتكئ على حكام التخاذل العربي.